الحمد لله.
فإن الحديث الذي أورده السائل في دس جبريل الطين في فم فرعون حديث ثابت ، أخرجه الترمذي في "سننه" (3107) ، وأحمد في "مسنده" (2144) ، من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ قَالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ فَلَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخُذُ مِنْ حَالِ البَحْرِ فَأَدُسُّهُ فِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ ".
والحديث صححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2015) .
وفي تخريج المسند ، ط الرسالة (4/45-47) : أن الصحيح وقفه على ابن عباس ، وكأنه أشبه.
أما ما ذكره السائل من صحة ما يذكر من أن الله قال لجبريل حينئذ :" يا جبريل : وعزتي وجلالي لو استغاثني واستغفرني لغفرت له " .
فهذا لا يصح ، ولم يرد بإسناد أصلا ، وإنما ذكره السيوطي في "معترك الأقران في إعجاز القرآن" (2/369) فقال :" وقيل: إن فرعون لما عاين العذاب أراد الإيمان في حال الغرق ، فرفع جبريل الطين وجعله في فِيه ، حتى استغاث بجبريل سبعين مرة ، فلم يُغِثه ، فعاتبه الله ، وقال لجبريل: استغاث بك فرعون سبعين مرة فلم تغثه ، وعِزَّتي وجلالي لو استغاث بي لأَغثته ". اهـ
وما دام ليس له إسناد : فإنه لا حجة فيه ، ولا عبرة به .
ثم إنه منكر من حيث المعنى ، فإن فرعون آمن حيث لا ينفع الإيمان ، فإن الله تعالى قال : ( حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) يونس/90 .
ومثل هذا الإيمان لا ينفع صاحبه ، وقد قال الله تعالى : ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) . غافر/ 84 ، 85
ولما قال فرعون ذلك قال الله : ( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) يونس/91 .
فقد يتبين أن غرقه لا علاقه له بموسى عليه السلام ، ولا جبريل عليه السلام ، بل لكونه مات كافرا ، ولم يؤمن الإيمان النافع .
إلا أنه قد ورد نحو ذلك ، ولكن في شأن قارون ، وليس في شأن فرعون .
وهو ما أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه (31843) ، والطبري في "تفسيره" (18/334) ، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (17156) ، والحاكم في "المستدرك" (3536) ، جميعا من طريق الْأَعْمَشِ ، عَنِ الْمِنْهَالِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، زاد بعضهم " وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ " ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ: " لَمَّا أَتَى مُوسَى قَوْمَهُ فَأَمَرَهُمْ بِالزَّكَاةِ ، فَجَمَعَهُمْ قَارُونُ فَقَالَ: هَذَا قَدْ جَاءَكُمْ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَبِأَشْيَاءَ تُطِيقُونَهَا ، تَحْتَمِلُونَ أَنْ تُعْطُوهُ أَمْوَالَكُمْ؟ قَالُوا: مَا نَحْتَمِلُ أَنْ نُعْطِيَهُ أَمْوَالَنَا فَمَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ نُرْسِلَ إِلَى بَغِيِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَأْمُرَهَا أَنْ تَرْمِيَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَجْنَادِ وَالنَّاسِ بِأَنَّهُ أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا ، فَفَعَلُوا ، فَرَمَتْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ ، فَدَعَا اللَّهَ عَلَيْهِمْ ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْأَرْضِ أَنْ أَطِيعِيهِ ، فَقَالَ لَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: خُذِيهِمْ ، فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى رُكَبِهِمْ ، قَالَ: فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا مُوسَى يَا مُوسَى قَالَ: خُذِيهِمْ ، فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى حُجَزِهِمْ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا مُوسَى يَا مُوسَى فَقَالَ: خُذِيهِمْ ، فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا مُوسَى يَا مُوسَى ، قَالَ: فَأَخَذَتْهُمْ فَغَيَّبتْهُمْ ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مُوسَى، سَأَلَكَ عِبَادِي وَتَضَرَّعُوا إِلَيْكَ فَأَبَيْتَ أَنْ تُجِيبَهُمْ ، أَمَا وَعِزَّتِي لَوْ أَنَّهُمْ دَعَوْنِي لَأَجَبْتُهُمْ ".
وفي لفظ عند الطبري في "تفسيره" :" فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَا مُوسَى: اسْتَغَاثَ بِكَ فَلَمْ تُغِثْهُ ، أَمَا لَوِ اسْتَغَاثَ بِي لَأَجَبْتُهُ وَلَأَغَثْتُهُ " . يقصد قارون .
وهذا إسناد ضعيف إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنه ، حيث فيه الأعمش ، وهو مدلس ، وقد عنعن الحديث ، بل تدليسه من أسوء أنواع التدليس ، وهو تدليس التسوية حيث يحذف الراوي الضعيف في الإسناد كله ، وليس شيخه فقط . وقد نصَّ الخطيب البغدادي على أن الأعمش كان ممن يفعل ذلك فقال كما في "الكفاية" (364) :" وَرُبَّمَا لَمْ يُسْقِطِ الْمُدَلِّسُ اسْمَ شَيْخِهِ الَّذِي حَدَّثَهُ ،لَكِنَّهُ يُسْقِطُ مِمَّنْ بَعْدَهُ فِي الْإِسْنَادِ رَجُلًا يَكُونُ ضَعِيفًا فِي الرِّوَايَةِ ، أَوْ صَغِيرَ السِّنِّ وَيَحْسُنُ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ , وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ , وَبَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا ". اهـ
ولو صح إسناده لما جاز الاحتجاج به ، لأنه وإن كان مما لا مجال فيه للرأي ، إلا أن عبد الله بن عباس كان يأخذ عن كعب الأحبار ، ولذا يتوقف في مثل ذلك لأنه احتمال أن يكون مما أخذه عن بني إسرائيل .
قال العراقي في "شرح التبصرة والتذكرة" (1/200) في حديثه عما قاله الصحابي مما لا مجال فيه للرأي ، قال :" فإنَّهُ وإنْ كان لا يقالُ مثلُهُ من جهةِ الرأي ، فلعلَّ بعضَ ذلك سمعَهُ ذلك الصحابيُّ من أهل الكتابِ ، وقد سمعَ جماعةٌ من الصحابةِ من كعب الأحبارِ ، ورَوَوا عنه كما سيأتي ، منهم العبادلةُ ". اهـ ، والعبادلة هم :" عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ".
ومما يجب التنبيه عليه أنه هذا الأثر المروي عن ابن عباس رضي الله ، قد روي من طريقين غير طريق ابن عباس في قصة هلاك قارون بألفاظ منكرة جدا ، ومن ذلك ما يلي :
الطريق الأول :
أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (17157) ، والطبري في "تاريخه" (1/447) من طريق جَعْفَر بْن سُلَيْمَانَ الضبعي ، ثنا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ الْهَاشِمِيَّ ، وساقه بنحوه ، وذكر فيه :" فَلَمَّا خُسِفَ بِهِ قِيلَ لَهُ: يَا مُوسَى مَا أَفَظَّكَ، أَمَا وَعِزَّتِي لَوْ إِيَّايَ دَعَا لَرَحِمْتُهُ ".
وهذا إسناد لا يصح ، فيه علي بن زيد بن جدعان ، قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (1/344) :" وهو ضعيف عند المحدثين ". اهـ ، ثم هو مرسل لأنه من رواية عبد الله بن الحارث بن نوفل ، قال العلائي في "جامع التحصيل" (344) :" ولا صحبة له ، بل ولا رؤية ؛ وحديثه مرسل قطعا ". اهـ
ثم فيه معنى منكر ، حيث فيه اتهام لنبي الله موسى عليه السلام بالفظاظة ، وهذا لا يليق بنبي من أولي العزم من الرسل؛ لا سيما والمقام مقام عداوة وانتقام من قارون ، عدو الله ، العاتي عليه ، الكافر به !!
الطريق الثاني :
أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/402) ، والواحدي في (3/409) ، من طريق اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، قال أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْفٍ الْقَارِي عَامِلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى دِيوَانِ فِلَسْطِين أَنَّهُ بَلَغَهُ .. ثم ساقه بنحوه ، وفيه :" فأوحى الله إليه: يا موسى ، ما أغلظ قلبك ، أما وعزتي وجلالي لو بي استغاث لأغثته ".
وهو منقطع كما ترى ، فهو عن عبد الله بن عوف القاري أنه بلغه ، وعبد الله بن عوف من التابعين ، قال ابن منده :" وهو من تابعي أهل الشام في الطبقة الثالثة وكان عامل عمر بن عبد العزيز ". اهـ ، كذا نقله عنه ابن حجر في "الإصابة" (5/156) .
والحاصل : أن الأثر لم يرد أصلا في فرعون ، وإنما ورد نحوه في قصة هلاك قارون ، ولا تصح أيضا ، فنرجو من إخواننا المسلمين عموما ومن الدعاة خصوصا التثبت قبل النقل أو النشر .
والله أعلم .
تعليق