الحمد لله.
على العبد أن يعتقد أن كل ما يحدث في هذا الكون فهو بتقدير الله تعالى، كما قال: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) القمر/49
ولله تعالى الحكمة فيما يخلقه ويقدره، وهو الرحيم بعباده، الموفق لهم، المحب لهدايتهم.
ومن رحمته أن يرسل مثل هذه الإشارات لتكون سببا للهداية، أو منعا من الغواية.
ومن ذلك ما روى البخاري (1121) ، ومسلم (2479) عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:
" كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا رَأَى رُؤْيَا، قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا أَقُصُّهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ: وَكُنْتُ غُلَامًا شَابًّا عَزَبًا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ : كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ، فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ كَقَرْنَيِ الْبِئْرِ، وَإِذَا فِيهَا نَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ .
فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ !!
قَالَ : فَلَقِيَهُمَا مَلَكٌ ، فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ !!
فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ، عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ !!).
قَالَ سَالِمٌ: فَكَانَ عَبْدُ اللهِ ، بَعْدَ ذَلِكَ، لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا " .
وأقرب من هذا لما ذكر في السؤال ، قصة أصحاب الأخدود ، وما حدث للغلام من الحيرة : ما هو الدين الحق ؟ وأي الرجلين أحب إلى الله ، وأقرب إليه ، الراهب الذي يعلمه الدين ، ويدله على الخير ، أم الساحر الذي يريه العجائب ؟!
روى مسلم (3005) من حديث صُهَيْبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال :
( كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ .
فَلَمَّا كَبِرَ ، قَالَ لِلْمَلِكِ : إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ . فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلامًا يُعَلِّمُهُ .
فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ ، رَاهِبٌ ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ ، وَسَمِعَ كَلامَهُ فَأَعْجَبَهُ . فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ ، مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ. فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ ، فَقَالَ : إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي ، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ ، فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ !!
فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ ، إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ .
فَقَالَ : الْيَوْمَ أَعْلَمُ ؛ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ ، أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ ؟
فَأَخَذَ حَجَرًا ، فَقَالَ اللَّهُمَّ : إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ ، فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ ؟
فَرَمَاهَا ، فَقَتَلَهَا ، وَمَضَى النَّاسُ !!
فَأَتَى الرَّاهِبَ ، فَأَخْبَرَهُ .
فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ : أَيْ بُنَيَّ ؛ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي ؛ قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى ، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى ؛ فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلا تَدُلَّ عَلَيَّ .. ) .
فذكر الحديث بطوله ، وفي آخره : أن الملك الكافر الفاجر ، قد أفزعه إيمان الناس :
( .. فَأُتِيَ الْمَلِكُ ، فَقِيلَ لَهُ : أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ ؛ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ؛ قَدْ آمَنَ النَّاسُ !!
فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ ، فَخُدَّتْ ، وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ :
مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا ، أَوْ : قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ .
فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ ، وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا ، فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا .
فَقَالَ لَهَا الْغُلامُ : يَا أُمَّهْ اصْبِرِي ؛ فَإِنَّكِ عَلَى الْحَق!! ) .
وقد ذكرنا القصة بطولها في جواب السؤال رقم (21711).
وقريب من الغلام الذي صبر أمه ، أيضا ، قصة الثلاثة الذين تكلموا في المهد .
وقد ذكرنا حديثهم في جواب السؤال رقم (202339).
ومن ذلك أيضا : ما رواه البخاري (439) عَنْ عَائِشَةَ :
( أَنَّ وَلِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنَ العَرَبِ، فَأَعْتَقُوهَا، فَكَانَتْ مَعَهُمْ، قَالَتْ: فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ عَلَيْهَا وِشَاحٌ أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ، قَالَتْ: فَوَضَعَتْهُ - أَوْ وَقَعَ مِنْهَا - فَمَرَّتْ بِهِ حُدَيَّاةٌ ، وَهُوَ مُلْقًى، فَحَسِبَتْهُ لَحْمًا فَخَطِفَتْهُ، قَالَتْ: فَالْتَمَسُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوهُ . قَالَتْ: فَاتَّهَمُونِي بِهِ، قَالَتْ: فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ حَتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَا !!
قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي لَقَائِمَةٌ مَعَهُمْ، إِذْ مَرَّتِ الحُدَيَّاةُ فَأَلْقَتْهُ، قَالَتْ: فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ!! قَالَتْ: فَقُلْتُ : هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ، زَعَمْتُمْ؛ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ، وَهُوَ ذَا هُوَ!! قَالَتْ: فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَسْلَمَتْ .
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي المَسْجِدِ - أَوْ حِفْشٌ - .
قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِينِي فَتَحَدَّثُ عِنْدِي، قَالَتْ: فَلاَ تَجْلِسُ عِنْدِي مَجْلِسًا، إِلَّا قَالَتْ:
وَيَوْمَ الوِشَاحِ مِنْ أَعَاجِيبِ رَبِّنَا ... أَلاَ إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الكُفْرِ أَنْجَانِي
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهَا مَا شَأْنُكِ، لاَ تَقْعُدِينَ مَعِي مَقْعَدًا إِلَّا قُلْتِ هَذَا؟ قَالَتْ: فَحَدَّثَتْنِي بِهَذَا الحَدِيثِ ) .
ومن ذلك أيضا : قصة إسلام سلمان الفارسي ، رضي الله عنه ، وما وقع فيها من الأعاجيب ، وقد ذكرناها في جواب السؤال رقم (88651).
ومن هذه الرسائل القدرية : باب معجزات الأنبياء ، وآيات صدقهم ، التي آمن عليها الناس ، ودلتهم على اتباع الأنبياء ، والتصديق بالدين الحق؛ فمن رأى منهم تلك الآية ، كانت نداء له ، بتقدير الله جل جلاله لعباده .
ومنها أيضا : كرامات الأولياء التي وقعت لهم ، فاهتدوا بها من الضلالة بأنفسهم ، وتغير حالهم ، أو رآها غيرهم ، فانتفع بها ، واهتدى .
وقد ذكر أهل العلم شيئا من ذلك.
قال ابن رجب رحمه الله: " دخل بعضهم غيضة ذات شجر، فقال: لو خلوت هاهنا بمعصية من كان يراني؟ فسمع هاتفا بصوت ملأ الغيضة: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [الملك: 14]" انتهى من جامع العلوم والحكم (1/ 409).
وذكر ابن قدامة رحمه الله في توبة الفضيل بن عياض رحمه الله أنه "كان يقطع الطريق وحده ، فخرج ذات ليلة ليقطع الطريق ، فإذا هو بقافلة قد انتهت إليه ليلا ، فقال: بعضهم لبعض: اعدلوا بنا إلى هذه القرية ، فإن أمامنا رجلا يقطع الطريق يقال له: الفضيل.
قال: فسمع الفضيل، فأُرعد، فقال: يا قوم! أنا الفضيل ؛ جُوْزوا [يعني : مروا ، واعبُروا] ، والله لأجتهدن أن لا أعصي الله أبدا ، فرجع عما كان عليه.
وروي من طريق أخرى أنه ضافهم تلك الليلة ، وقال: أنتم آمنون من الفضيل . وخرج يرتاد لهم علفا ، ثم رجع فسمع قارئا يقرأ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ الحديد) [الحديد: 16] .
قال: بلى والله قد آن ؛ فكان هذا مبتدأ توبته" انتهى من "كتاب التوابين" ص127
وينظر كثيرا من هذه القصص والأخبار في "كتاب التوابين" لابن قدامة المقدسي ، رحمه الله .
والحاصل :
أن مثل هذه الإشارات، قد تقع لبعض الناس، فيسمع هاتفا، أو يرى آية، أو يرى رؤيا في منامه ، فتكون سببا في هدايته وعصمته، أو دلالته على الخير وتجنيبه الشر.
ولو سميت هذه بإشارات القدر : فلا حرج أيضا في هذه التسمية ، فإن كل شيء بقدر، وهي إشارات يسوقها الله تعالى بقدره لمن يشاء من عباده.
غير أن ذلك لا يعني : أن كل ما يحكى في هذا الباب هو صحيح في نفسه . سواء كان هو المقطع المذكور ، أو غيره مما يحكيه الناس ، وينقلونه .
ولا يعني : أن كل من طلب آية من ذلك ، أتته .
أو كل من سأل الله أن يرسل له إشارة من القدر : أتته هذه الإشارة .
فإن هذا الباب من الرزق الذي يسوقه الله بقدر، وفق علمه وحكمته البالغة، سبحانه .
بل المراد هنا : أن هذه القصص ونحوها ، هي ممكنة الحدوث في نفسها ، وقد وقع ، وما زال يقع من نظائرها الشيء الكثير ؛ فلا عجب في وقوع مثل ذلك .
غير أنه أيضا : ليس شرطا في إيمان من يؤمن ، وليس كل من سأل شيئا من ذلك ، فمنع منه : مسدود عنه طريق الهداية ، ولا يلزم أنه مسخوط عليه ، أو أنه محروم ؛ فإن مدار الهداية : إنما هو على نور الوحي الإلهي .
قال الله تعالى : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) الشورى /525-53
روى البخاري (4981) ومسلم (152) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ .
والله أعلم.
تعليق