الحمد لله.
أولا:
أما النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم خاص به ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم كانت تحرم عليه صدقة الفريضة والتطوع ، وقد كان ذلك من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم .
وحديث بريرة يدل على ذلك، لأن الصدقة الواجبة وهي الزكاة لا توزع لحما.
وكحديث سلمان رضي الله عنه في قصة إسلامه: ( ... وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِقُبَاءَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ. قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا، وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُهُ بِهِ، فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا، قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ ... ) رواه الإمام أحمد في "المسند" (39 / 140 - 145)، وحسّنه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (2 / 560).
ولا شك أن صدقة سلمان يومئذ لم تكن صدقة واجبة.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" وأما امتناعه صلى الله عليه وسلم من أكل صدقة التطوع، فمشهور، ومنقول من وجوه صحاح " انتهى، من "التمهيد" (3 / 93).
وأما آل محمد صلى الله عليه وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة، فتحرم عليهم الفريضة فقط ، دون التطوع .
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" والذي عليه جمهور أهل العلم، وهو الصحيح عندنا أن صدقة التطوع لا بأس بها، لبني هاشم ومواليهم .
ومما يدلك على صحة ذلك أن عليا، والعباس، وفاطمة رضي الله عنهم، وغيرهم تصدقوا، وأوقفوا أوقافا على جماعة من بني هاشم، وصدقاتهم الموقوفة معروفة مشهورة " انتهى، من "التمهيد" (3 / 92 – 93).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" المحرم عليهم صدقة الفرض، وأما صدقات التطوع فقد كانوا يشربون من المياه المسبلة بين مكة والمدينة، ويقولون: إنما حرم علينا الفرض، ولم يحرم علينا التطوع " انتهى. "منهاج السنة" (4 / 261).
وهذا هو الذي يقتضيه التعليل الوارد في حديث عَبْد الْمُطَّلِبِ بْن رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أنّ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ؛ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ ) رواه مسلم (1072).
قال النووي رحمه الله تعالى:
" قوله صلى الله عليه وسلم ( إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ ) تنبيه على العلة في تحريمها على بني هاشم وبني المطلب، وأنها لكرامتهم وتنزيههم عن الأوساخ .
ومعنى أوساخ الناس أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم، كما قال تعالى: ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) فهي كغسالة الأوساخ " انتهى، من "شرح صحيح مسلم" (7 / 179).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" ولقوله – تعالى-: ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا )، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( الصدقة أوساخ الناس ) كما رواه مسلم .
ويؤخذ من هذا : جواز التطوع دون الفرض، وهو قول؛ أكثر الحنفية، والمصحح عند الشافعية والحنابلة " انتهى، من "فتح الباري" (3 / 354).
ولا يقاسون على النبي صلى الله عليه وسلم في امتناعه عن أكل صدقة التطوع؛ لوجود الفارق، وهو مقام النبوة، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو صاحب هذا المقام الشريف ، نزهه الله تعالى أن يقف في موقف يكون فيه المتصدق أعلى منه.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ، وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ، وَالتَّعَفُّفَ، وَالمَسْأَلَةَ: ( اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، فَاليَدُ العُلْيَا: هِيَ المُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى: هِيَ السَّائِلَةُ ) رواه البخاري (1429) ومسلم (1033).
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ، لأنه يثيب عليها ، ويعطي صاحبها ما يقابل هديته.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا ) رواه البخاري (2585).
قال الخطابي رحمه الله تعالى:
" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يأخذ الصدقة لنفسه .
وكأن المعنى في ذلك : أن الهدية إنما يراد بها ثواب الدنيا، فكان صلى الله عليه وسلم يقبلها ويثيب عليها ، فتزول المنة عنه.
والصدقة : يراد بها ثواب الآخرة ، فلم يجز أن تكون يد أعلى من يده في ذات الله ، وفي أمر الآخرة " انتهى، من "معالم السنن" (2 / 71).
كما أن الناس في الصدقات ينظرون إلى المتصدق عليه بأنه في مقام الحاجة لأموالهم، وهذا حال يتنزه عنه مقام النبوة، بخلاف الهدية فالمهدى إليه يُنظر إليه بعين الحب والإكرام.
ثانيا:
الصحيح المقطوع به أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، لأدلة عدّة؛ من أشهرها:
قول الله تعالى:
( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) الأحزاب (33 – 34).
فـ ( أَهْلَ الْبَيْتِ ) في الآية تناول أمهات المؤمنين من جهتين؛ من جهة سبب النزول، ومن جهة السياق.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت هاهنا؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول ، أو مع غيره على الصحيح " انتهى، من "تفسير ابن كثير" (6 / 410).
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" فإن قرينة السياق صريحة في دخولهن؛ لأن الله تعالى قال: ( قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ )، ثم قال في نفس خطابه لهن: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ )، ثم قال بعده: ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ )...
والتحقيق إن شاء الله: أنهن داخلات في الآية، وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت.
أما الدليل على دخولهن في الآية، فهو ما ذكرناه آنفا من أن سياق الآية صريح في أنها نازلة فيهن.
والتحقيق: أن صورة سبب النزول قطعية الدخول ; كما هو مقرر في الأصول " انتهى، من "أضواء البيان" (6 / 635 - 636).
فإذا كن من أهل البيت فهل تحرم عليهن الصدقة؟
حكى ابن بطال رحمه الله تعالى، الاتفاق على أنه يحل لهن أكل الصدقات؛ حيث قال:
" اتفق كافة الفقهاء على أن أزواج النبى عليه السلام لا يدخلن فى آله الذين تحرم عليهم الصدقة " انتهى، من "شرح صحيح البخاري" (3 / 543 - 544).
لكن هذا الاتفاق فيه نظر؛ وقد بيّن هذا الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، فقال:
" قد نقل ابن بطال أنهن -أي الأزواج- لا يدخلن في ذلك باتفاق الفقهاء ؛ وفيه نظر ، فقد ذكر ابن قدامة أن الخلال أخرج من طريق بن أبي مليكة عن عائشة قالت: ( إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة ) . قال: وهذا يدل على تحريمها.
قلت: وإسناده إلى عائشة حسن، وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا" انتهى، من "فتح الباري" (3 / 356).
وحديث عائشة رضي الله عنها رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7 / 50)، قال: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شَرِيكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ، بَعَثَ إِلَى عَائِشَةَ بِبَقَرَةٍ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَرَدَّتْهَا، وَقَالَتْ: ( إِنَّا آلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ ).
ثم القياس يقتضي ذلك ، كما بينه ابن القيم رحمه الله تعالى:
" القول الصحيح، وهو منصوص الإمام أحمد رحمه الله: أن الصدقة تحرم عليهنّ؛ لأنها أوساخ الناس، وقد صان الله سبحانه ذلك الجناب الرفيع وآله من كل أوساخ بني آدم .
ويا لله العجب كيف يدخل أزواجه في قوله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ) ، وقوله في الأضحية: ( اللهم هذا عن محمد وآل محمد ) ، وفي قول عائشة رضي الله عنها: ( ما شبع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز بر ) ، وفي قول المصلي: ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ) =
ولا يدخلن في قوله: ( إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد )، مع كونها من أوساخ الناس؟! فأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالصيانة عنها، والبعد منها " انتهى، من "جلاء الأفهام" (ص 245 - 246).
والله أعلم.
تعليق