الجمعة 17 شوّال 1445 - 26 ابريل 2024
العربية

هل دراسة القضاء تعتبر طلبا له

277690

تاريخ النشر : 09-11-2019

المشاهدات : 2271

السؤال

هل إذا درست القضاء اعتبر طالبا له ، وأدخل ضمن هذا الحديث عن أبي موسى رضي الله عنه قال: " دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أمرنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله ، فقال : ( إنا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه) ؟

الجواب

الحمد لله.

القضاء بين الناس ولاية صغرى ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن طلب الولاية والإمارة عمومًا في عدة أحاديث ، منها :

ما أخرجه البخاري في صحيحه (7146) ، ومسلم (1652) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ ، قَالَ : قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :  يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا ، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا ... .

وما أخرجه مسلم في صحيحه (1825) عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : " قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي ؟ قَالَ : فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ، ثُمَّ قَالَ :   يَا أَبَا ذَرٍّ ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا ، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا  .

وما أخرجه البخاري في صحيحه (7149) عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : " دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَرَجُلاَنِ مِنْ قَوْمِي ، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ : أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَهُ ، فَقَالَ :  إِنَّا لاَ نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَأَلَهُ ، وَلاَ مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ  " .

وفي هذه الأحاديث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن طلب الإمارة ، وبيَّن أن من طلبها فإنه يوكل إليها ، وإذا كان ضعيفًا فإنه لن يستطيع أن يقوم بحقها ، وستكون عليه يوم القيامة خزيا وندامة ، كما بيّن أنه لا ينبغي أن يتولى الإمارة من سألها وكان حريصًا عليها .

ولما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلم قال :   مَن وَلِيَ القضاءَ فقد ذُبِحَ بغير سِكِّين   أخرجه أبو داود (3571) ، والترمذي (1325) وغيرهما ، وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وصححه الألباني.

قال الخطابي - رحمه الله - : " معناه التحذير من طلب القضاء والحرص عليه ، يقول : من تصدى للقضاء ، فقد تعرض للذبح ، فليحذره، ولْيَتَوَقَّه " انتهى من "معالم السنن" (4/ 159).

وقال أبو عمر ابن عبد البر – رحمه الله -: " أما كراهة القضاء بين الناس : فقد كرهه وفرَّ منه جماعة من فضلاء العلماء " انتهى من " الاستذكار" (7/297).

وجاء عَنْ عَمْرٍو بن دينار ، قَالَ : كَتَبَ الْحَكَمُ بْنُ أَيُّوبَ فِي نَفَرٍ يَسْتَعْمِلُهُمْ عَلَى الْقَضَاءِ ، فَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ : " لَوْ أَرْسَلَ إِلَيَّ لَهَرَبْتُ " انتهى من "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 543).

وعن ابْنِ عُلَيَّةَ ، عَنْ أَيُّوبَ ، قَالَ : لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُذَيْنَةَ، ذُكِرَ أَبُو قِلَابَةَ لِلْقَضَاءِ ، فَهَرَبَ حَتَّى أَتَى الشَّامَ ، فَوَافَقَ ذَلِكَ عَزْلَ صَاحِبِهَا ، فَهَرَبَ حَتَّى أَتَى الْيَمَامَةَ فَلَقِيتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : " مَا وَجَدْتُ مَثَلَ الْقَاضِي إِلَّا كَمَثَلِ رَجُلٍ سَابِحٍ فِي بَحْرٍ ، وَكَمْ عَسَى أَنْ يَسْبَحَ حَتَّى يَغْرَقَ " انتهى من "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 543).

ولكن :

إذا كان في تقديم الإنسان نفسه وسؤاله الولاية مصلحة شرعية ؛ كأن يكون أهلاً لهذا المنصب، وقادرًا على القيام بحقه، وينوي بذلك إقامة السياسة الشرعية، والإصلاح في الأرض، بقدر ما يطيقه مثله، فهذا خير، وقصد صالح، ويرجى أن يعينه الله عليه، وألا يكله إلى نفسه. لا سيما إن كان لا يرى من هو أهل له متقدمًا إليه، أو كان يرى المتقدمين إليه سيفسدون على الناس أمورهم ؛ فله أن يقدِّم نفسه بنية تحقيق المصلحة الشرعية .

قال المهلب: " وأما إن حَرِصَ على القيام بأمر ضائع من أمور المسلمين ، أو حرص على سد خلة فيهم ، وإن كان له أمثال في الوقت والعصر لم يتحركوا لهذا ؛ فلا بأس أن يحرص على القيام بالأمر الضائع، ولا يُتهم هذا إن شاء الله . وبين هذا المعنى حديث خالد بن الوليد حين أخذ الراية من غير إمرة ففتح له " انتهى من "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (8/ 218).

وقال الحافظ ابن حجر: " في التعبير بالحرص: إشارة إلى أن من قام بالأمر عند خشية الضياع، يكون كمن أعطي بغير سؤال ؛ لفقد الحرص غالبا عمن هذا شأنه ، وقد يغتفر الحرص في حق من تعين عليه، لكونه يصير واجبًا عليه " انتهى من "فتح الباري" لابن حجر (13/ 126).

هذا وقد سأل الولاية بعض الأنبياء حينما رأوا أنهم أكفأ من يقوم بها ، ولخطر ما يترتب عليها لو وضعت في يد غير أمينة ، منهم :

يوسف عليه السلام ؛ إذ يقول للملك :   اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ  يوسف/ 55 .

وسليمان عليه السلام ؛ كما في قوله تعالى :   قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي ... ص/ 35).

جاء في "الفتاوى الهندية" (3/ 311): " وَلَا يَطْلُبُ الْقَضَاءَ، لَا بِقَلْبِهِ وَلَا بِلِسَانِهِ؛ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ ، فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ ، صِيَانَةً لِحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ " انتهى.

وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله-: ينفر كثير من طلبة العلم من المناصب الدينية.. فما هو السبب ؟ وهل من نصيحة للحضور ؟ كما يلاحظ أن كثيرا من الطلبة في كليات الشريعة ، يبحث بشتى الطرق للتخلص من القضاء ، فما نصيحة فضيلتكم لهم ؟

فأجاب : المناصب الدينية، من القضاء والتعليم والفتوى والخطابة ، مناصب شريفة ومهمة ، والمسلمون في أشد الحاجة إليها ، وإذا تخلى عنها العلماء تولاها الجهال ، فضلوا وأضلوا .

فالواجب على من دعت الحاجة إليه من أهل العلم والفقه في الدين ، أن يمتثل ؛ لأن هذه الأمور من القضاء والتدريس والخطابة والدعوة إلى الله ، وأشباه ذلك من فروض الكفايات ، فإذا تعينت على أحد من المؤهلين ، وجبت عليه ، ولم يجز له الاعتذار منها ، والامتناع.

ثم لو قدر أن هناك من يظهر أنه يكفي ، وأنها لا تجب عليه هذه المسألة ، فينبغي له أن ينظر الأصلح ، كما ذكر الله سبحانه عن يوسف عليه الصلاة والسلام ، أنه قال لملك مصر: ( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) لما رأى المصلحة في توليه ذلك ؛ طلب الولاية ، وهو نبي ورسول كريم ، والأنبياء هم أفضل الناس ، طلبها للإصلاح : يصلح أهل مصر ، ويدعوهم إلى الحق.

فطالب العلم ، إذا رأى المصلحة في ذلك ، طلب الوظيفة ورضي بها : قضائية أو تدريسا ، أو وزارة أو غير ذلك ، على أن يكون قصده الإصلاح والخير ، وليس قصده الدنيا ، وإنما يقصد وجه الله ، وحسن المآب في الآخرة ، وأن ينفع الناس ، في دينهم أولا ، ثم في دنياهم ، ولا يرضى أن يتولى المناصب الجهال والفساق ، فإذا دعي إلى منصب صالح، يرى نفسه أهلا له ، وأن فيه قوة عليه ، فليُجب إلى ذلك ، وليحسن النية ، وليبذل وسعه في ذلك ، ولا يقل أخشى كذا ، وأخشى كذا .

ومع النية الصالحة ، والصدق في العمل ، يوفق العبد ، ويعان على ذلك ، إذا أصلح لله نيته ، وبذل وسعه في الخير ، وفقه الله .

ومن هذا الباب حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي ، أنه قال: يا رسول الله اجعلني إمام قومي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنت إمامهم ، واقتد بأضعفهم ، واتخذ مؤذنا ، لا يأخذ على أذانه أجرا ) رواه الإمام أحمد ، وأهل السنن ، بإسناد صحيح.

فطلب رضي الله عنه إمامة قومه للمصلحة الشرعية ، ولتوجيههم للخير ، وتعليمهم وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، مثلما فعل يوسف عليه الصلاة والسلام .

قال العلماء : إنما نهي عن طلب الإمرة والولاية ، إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك ؛ لأنه خطر ، كما جاء في الحديث النهي عن ذلك ، لكن متى دعت الحاجة، والمصلحة الشرعية إلى طلبها جاز ذلك ، لقصة يوسف عيه الصلاة والسلام ، وحديث عثمان رضي الله عنه المذكور " انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (23/215).

والحاصل:

أن دراسة القضاء وتوليته إذا كانت من أجل تحقيق مصلحة شرعية ، وكان يقصد به وجه الله تعالى ، وليس العلو في الأرض ؛ فذلك جائز ، بل مندوب إليه ، وأما إذا كان من باب الحرص على الدنيا وتولي المناصب والعلو في الأرض ؛ فذلك منهي عنه ، وعاقبته الخزي والندامة في الدنيا والآخرة .

على أن الذي يظهر أن مجرد دراسة القضاء، أو الانتساب إلى معاهده العلمية، ليس من طلب الولاية ، ولا الحرص عليها ، متى لم تتشوف نفسه إليها ، ولم تحرص عليها ؛ فإن من الناس كثيرا ممن يدرس في معاهد القضاء، ثم لا يتولى وظائفه، بل يعمل في التدريس، أو في غير ذلك من الوظائف والأعمال .

ومتى درس القضاء، وكانت له نية في توليه، وطلب له، فقد مر معنا تفصيل الأحوال التي يشرع فيها ذلك، ويحمد تعرضه له، وأن ذلك مرخص فيه غير مذموم.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب