الحمد لله.
يجب على الإنسان دفع الصائل المعتدي عليه أو على أهله وولده، أو على غيره من المسلمين، إذا كان لا يمكنهم الدفاع عن أنفسهم، فيهبّ لنجدتهم، وينصرهم على من ظلمهم، ولو أدى ذلك إلى قتل الصائل؛ لحديث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ، فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا ، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ ؟ قَالَ: تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ " .
رواه البخاري (6952)، ومسلم (2584) من حديث جابر رضي الله عنه .
وعن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ .
رواه البخاري (2442)، ومسلم (2580) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ ) يعني في الدين ...
( وَلاَ يُسْلِمُهُ ) يعني لا يسلمه لمن يظلمه ، فهو يدافع عنه ويحميه من شره ، فهو جامع بين أمرين:
الأمر الأول: أنه لا يظلمه .
والأمر الثاني: أنه لا يسلمه لمن يظلمه ، بل يدافع عنه .
ولهذا قال العلماء رحمهم الله: يجب على الإنسان أن يدافع عن أخيه في عرضه وبدنه وماله". انتهى من " شرح رياض الصالحين " (2 / 566 – 567) .
وعَنْ قَابُوسَ بْنِ مُخَارِقٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : الرَّجُلُ يَأْتِينِي فَيُرِيدُ مَالِي ، قَالَ : ذَكِّرْهُ بِاللَّهِ ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَذَّكَّرْ ؟ قَالَ : فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَنْ حَوْلَكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَوْلِي أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ : فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِالسُّلْطَانِ ، قَالَ : فَإِنْ نَأَى السُّلْطَانُ عَنِّي ؟ قَالَ : قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ، حَتَّى تَكُونَ مِنْ شُهَدَاءِ الْآخِرَةِ، أَوْ تَمْنَعَ مَالَكَ " رواه النسائي ( 4081 ) وصححه الألباني في " صحيح النسائي " .
قال الخطيب الشربيني رحمه الله: "ويجب الدفع عن بُضْعٍ ... وسواء بُضع أهله، أو غيره" انتهى من " مغني المحتاج " (5 / 528).
وسئل الغزالي رحمه الله تعالى : "إذا صال إنسان على آخر ، فعجز المصال عليه عن دفعه ؛ فهل يجب على من يقدر على دفعه أن يدفعه ؛ حتى إن قتله دفعاً لم يجب الضمان ؟
الجواب : يجب ذلك بطريق النهي عن المنكر ، ولا ضمان عليه " انتهى من " فتاوى الغزالي" (ص113).
ثانيا:
دفع الصائل يكون بالأسهل فالأسهل، فإن لم يندفع إلا بالقتل، جاز القتل، وكذا لو غلب على الظن أن الصائل يبادر بالقتل، جاز قتله من أول الأمر.
قال النووي رحمه الله تعالى: " أما كيفية الدفع : فيجب على المَصُول عليه رعاية التدريج ، والدفع بالأهون فالأهون ، فإن أمكنه الدفع بالكلام ، أو الصياح ، أو الاستغاثة بالناس ، لم يكن له الضرب ...
أما إذا لم يندفع الصائل إلا بالضرب ، فله الضرب ...
ولو أمكن بقطع عضو، لم يجز إهلاكه ...
ولو كان الصائل يندفع بالسوط والعصا، ولم يجد المَصول عليه إلا سيفا، أو سكينا؛ فالصحيح أن له الضرب به ...
والمعتبر في حق كل شخص حاجته " انتهى من "روضة الطالبين" (10 / 187) .
وقال البهوتي في "كشاف القناع
(6/ 155): "( ومن صال على نفسه) بهيمة أو آدمي (أو) صال على (نسائه) ، كأُمِّه وابنته وأخته وزوجته ونحوهن ، (أو) على (ولده أو ماله ، ولو قل) المال...
وسواء صال على ذلك (في منزله أو غيره .
ولو) كان (متلصصا) أي طالبا للسرقة ، (ولم يخف) الدافع (أن يبدره الصائل بالقتل ، دفعه بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به) ، لأنه لو مُنع من ذلك لأدى إلى تلفه ، وأذاه في نفسه وحرمته وماله . ولأنه لو لم يجز ذلك ، لتسلط الناس بعضهم على بعض ، وأدى إلى الهرج والمرج .
(فإن اندفع بالقول ، لم يكن له ضربه) بشيء . (وإن لم يندفع بالقول ، فله) ، أي الدافع : (ضربه بأسهلِ ما يَظن أن يندفع به ؛ فإن ظن أن يندفع بضرب عصا ، لم يكن له ضربه بحديد) ، لأنه آلة القتل ، (وإن ولى هاربا ، لم يكن له قتله ولا اتباعه) ، كالبغاة ، (وإن ضربه فعطله ، لم يكن له أن يُثَنِّي عليه) ؛ لأنه كُفي شرَّه.....
(فإن لم يمكنه) ، أي الدافع ، (دفعُه) ، أي الصائلَ ، (إلا بالقتل ، أو خاف) الدافع (ابتداءً ، أن يبدأه) أي الصائل (بالقتل ، إن لم يعاجله بالدفع ؛ فله ضربه بما يقتله ، ويقطع طرفه ، ويكون) ذلك (هَدَرا) ، لأنه أُتلف لدفع شره ؛ كالباغي.
(وإن قُتل المصول عليه ، فهو شهيد ، مضمون) ؛ لحديث أبي هريرة: قال جاء رجل فقال : يا رسول الله ، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال : لا تعطه . قال : أرأيت إن قاتلني ؟ قال : قاتله . قال : أرأيت إن قتلني ؟ قال : فأنت شهيد . قال : أرأيت إن قتلته ؟ قال : في النار رواه أحمد ومسلم.
وعن سعيد بن يزيد قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من قُتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون دمه فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله فهو شهيد رواه أبو داود والترمذي وصححه" انتهى.
ثالثا:
ما سبق من وجوب الدفع : هو فيما إذا كان العدوان على النفس ، أو الحريم (العرض) ، أو على الولد.
وأما إذا كان العدوان على المال فقط، فيجوز الدفع ولا يجب.
قال النووي رحمه الله في شرح حدييث (أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي ؟) :
" فَفِيهِ جَوَاز قَتْل الْقَاصِد لِأَخْذِ الْمَال بِغَيْرِ حَقّ ، سَوَاء كَانَ الْمَال قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، لِعُمُومِ الْحَدِيث . وَهَذَا قَوْلٌ لِجَمَاهِير الْعُلَمَاء .
وَقَالَ بَعْض أَصْحَاب مَالِك لَا يَجُوز قَتْله إِذَا طَلَبَ شَيْئًا يَسِيرًا ، كَالثَّوْبِ وَالطَّعَام .
وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَالصَّوَاب مَا قَالَهُ الْجَمَاهِير .
وَأَمَّا الْمُدَافَعَة عَنْ الْحَرِيم فَوَاجِبَة، بِلَا خِلَاف .
وَفِي الْمُدَافَعَة عَنْ النَّفْس بِالْقَتْلِ: خِلَاف فِي مَذْهَبنَا، وَمَذْهَب غَيْرنَا .
وَالْمُدَافَعَة عَنْ الْمَال: جَائِزَة غَيْر وَاجِبَة . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَلَا تُعْطِهِ ) ، فَمَعْنَاهُ : لَا يَلْزَمك أَنْ تُعْطِيَهُ ، وَلَيْسَ الْمُرَاد تَحْرِيم الْإِعْطَاء " انتهى .
وأوجب جماعة من العلماء الدفاع عن مال الغير، عند ظن السلامة، أي سلامة الدافع والمدفوع عنه.
قال في "شرح منتهى الإرادات" (3/ 385): " (لا عن ماله) أي: لا يجب عليه دفع من أراد ماله، لأنه ليس فيه من المحذور ما في النفس . (ولا يلزمه) أي: رب المال (حفظه عن الضياع والهلاك ، وله بذله) لمن أراده منه ظلما، وذكر القاضي أنه أفضل من الدفع عنه.
قال أحمد في رواية حنبل: أرى دفعه إليه ، ولا يأتي على نفسه؛ لأنها لا عوض لها.
وقال المروذي وغيره: قال أبو عبد الله: لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها.
(ويجب) على كل مكلف الدفع (عن حُرمة غيره ، وكذا) عن (ماله) أي: الغير، لئلا تذهب الأنفس أو الأموال، أو تُستباح الحُرم (مع ظن سلامتهما) ، أي: الدافع والمدفوع.
قال في المذهب: أما دفع الإنسان عن مال غيره، فيجوز، ما لم يُفض إلى الجناية على نفس الطالب، أو شيء من أعضائه؛ (وإلا) تُظن سلامتهما مع الدفع: (حرم) لإلقائه إلى التهلكة" انتهى.
وبهذا التفصيل يُعلم حكم مقاومة اللصوص، وقطاع الطريق، وغيرهم من المعتدين.
ويُعلم كمال الشريعة في حفظها للنفوس، وفي عدم مقابلة العدوان بأزيد منه، وضرورة التفقه في هذا الباب.
والله أعلم.
تعليق