الحمد لله.
عن هذا السؤال يجب أن يكون من ناحيتين :الأولى : الحكم على طرق هذه القصة من ناحية الأسانيد .
الثانية : حكم قبول مثل هذه الأسانيد في المغازي والسير ، وتعامل أهل العلم معها .
أما من حيث الإسناد :
فهذه القصة ذكرها أهل السير وغيرهم بأسانيد متصلة ، وأخرى مرسلة ،
أما الأسانيد المتصلة لهذه القصة : فلا تصح ، وبيانها كما يلي :
الطريق الأول :
أخرجه الحاكم في "المستدرك" (5801) ، من طريق يعقوب بن يوسف بن زياد ، قال ثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْأَعْشَى ، أَخْبَرَنِي بَسَّامٍ الصَّيْرَفِيُّ ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ الْكِنَانِيُّ ، أَخْبَرَنِي حُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيُّ ، قَالَ :" أَشَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ بِخَصْلَتَيْنِ ، فَقَبِلَهُمَا مِنِّي ، خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةِ بَدْرٍ فَعَسْكَرَ خَلْفَ الْمَاءِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَبِوَحْيٍ فَعَلْتَ أَوْ بِرَأْيٍ؟ قَالَ: بِرَأْيٍ يَا حُبَابُ ، قُلْتُ : فَإِنَّ الرَّأْيَ أَنْ تَجْعَلَ الْمَاءَ خَلْفَكَ ، فَإِنْ لَجَأْتَ ، لَجَأْتَ إِلَيْهِ ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنِّي ".
وإسناده واه ، فيه عمرو بن خالد أبو حفص الأعشى ، قال فيه الذهبي في "تاريخ الإسلام" (5/137) : " كوفي واه " انتهى .
الطريق الثاني : رُوي عن عبد الله بن عباس .
وله عنه طريقان :
الأول : أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/567) فقال :" أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم نَزَلَ مَنْزِلًا يَوْمَ بَدْرٍ ، فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلٍ ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أَدْنَى مَاءٍ إِلَى الْقَوْمِ ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا ، وَنَقْذِفُ فِيهِ الْآنِيَةَ ، فَنَشْرَبُ وَنُقَاتِلُ ، وَنُغَوِّرُ مَا سِوَاهَا مِنَ الْقُلُبِ ، قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم فَقَالَ: الرَّأْيُ مَا أَشَارَ بِهِ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم: يَا حُبَابُ ، أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم فَفَعَلَ ذَلِكَ " .
وفي إسناده الواقدي ، وهو متروك الحديث ، إلا أن روايته في المغازي والسير يستأنس بها .
قال ابن سعد في "الطبقات" (5/425) في ترجمته له :" وَكَانَ عَالِمًا بِالْمَغَازِي وَالسِّيرَةِ وَالْفُتُوحِ ، وَبِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْحَدِيثِ وَالْأَحْكَامِ ، وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ " انتهى .
وقال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (5/182) :" وحاصل الأمر: أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَى ضعفه ، وأجود الروايات عَنْهُ : رواية ابنُ سعْد في "الطبقات"، فإنّه كَانَ يختار من حديثه بعض الشيء " انتهى .
وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (27/469) :" وَمَعْلُومٌ أَنَّ الواقدي نَفْسَهُ : خَيْرٌ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ مِثْلِ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيِّ ، وَأَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ وَأَمْثَالِهِمَا ، وَقَدْ عُلِمَ كَلَامُ النَّاسِ فِي الواقدي ؛ فَإِنَّ مَا يَذْكُرُهُ هُوَ وَأَمْثَالُهُ إنَّمَا يُعْتَضَدُ بِهِ ، وَيُسْتَأْنَسُ بِهِ .
وَأَمَّا الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِهِ فِي الْعِلْمِ : فَهَذَا لَا يَصْلُحُ " انتهى .
الثاني : أورده ابن كثير في "البداية والنهاية" (5/82) فقال :" قَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي ، قَالَ: وَزَعَمَ الْكَلْبِيُّ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
" بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ الْأَقْبَاصَ ، وَجِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ ، إِذْ أَتَاهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّ اللَّهَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ السَّلَامُ ، وَمِنْهُ السَّلَامُ ، وَإِلَيْهِ السَّلَامُ ، فَقَالَ الْمَلَكُ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكَ إِنَّ الْأَمْرَ هُوَ الَّذِي أَمَرَكَ بِهِ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ .فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا جِبْرِيلُ هَلْ تَعْرِفُ هَذَا؟
فَقَالَ: مَا كُلَّ أَهْلِ السَّمَاءِ أَعْرِفُ ، وَإِنَّهُ لَصَادِقٌ ، وَمَا هُوَ بِشَيْطَانٍ
.
وإسناده لا يصح أيضا ، فيه الكلبي ، وهو متروك ، واتهمه غير واحد بالكذب .
أما الطرق المرسلة فقد جاءت من طرق ثلاث ، كما يلي :
الطريق الأول :
أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (3/31) ، وابن الأثير في "أسد الغابة" (1/665) ، من طريق محمد بن إسحاق ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ ، وعاصم بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، وعبد الله ابن أَبِي بَكْرٍ ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا ، فَبَعْضُهُمْ قَدْ حَدَّثَ بِمَا لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ بَعْضٌ ، وَقَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ فِيمَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ يَوْمِ بدر ، قالوا : " ... فَلَمَّا جَاءَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ نَزَلَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّاهُ ، وَلَا نُقَصِّرُ عَنْهُ ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَة ُ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ، فَقَالَ الْحُبَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ ، وَلَكِنِ انْهَضْ حَتَّى تَجْعَلَ الْقُلُبَ كُلَّهَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِكَ ، ثُمَّ غَوِّرْ كُلَّ قَلِيبٍ بِهَا إِلَّا قَلِيبًا وَاحِدًا ، ثُمَّ احْفِرْ عَلَيْهِ حَوْضًا فَنُقَاتِلُ الْقَوْمَ فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ . فَقَالَ : قَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ .
وهذه مراسيل إسنادها حسن إلى عروة بن الزبير ، والزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعبد الله بن أبي بكر .
الطريق الثاني :
أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" ، وأورده من طريقه ابن هشام في "السيرة" (1/620) ، والطبري في تاريخه" (2/440) فقال :" قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحُدِّثْتُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ، أَنَّهُمْ ذَكَرُوا: " أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ ، أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ ، وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟.. ".
وإسناده منقطع ، ومرسل أيضا ، مبهم عمن أرسل عنهم .
الطريق الثالث :
أخرجه أبو داود في "المراسيل" (318) ، من طريق حماد بن زيد ، عَنْ يَحْيَى بن سَعِيدٍ ، قَالَ: " اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: نَرَى أَنْ نُغَوِّرَ الْمِيَاهَ كُلَّهَا غَيْرَ مَاءٍ وَاحِدٍ ؛ فَنَلْقَى الْقَوْمَ ، - يَعْنِي: الْعَدُوَّ - عَلَيْهِ . فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْقُلُبِ كُلِّهَا ، فَغُوِّرَتْ ، إِلَّا مَاءَ بَدْرٍ . فَلَقُوا الْقَوْمَ عَلَيْهِ ، وَاسْتَشَارَ النَّاسَ حِينَ أَتَى خَيْبَرَ: أَيْنَ نَنْزِلُ ؟ فَقَالَ: الْحُبَابُ: انْزِلْ - يَعْنِي بَيْنَ الْحُصُونِ - ، فَنَقْطَعَ خَبَرَ هَؤُلَاءِ عَنْ هَؤُلَاءِ ، وَخَبَرَ هَؤُلَاءِ عَنْ هَؤُلَاءِ ، فَنَزَلَ بَيْنَ الْقُصُورِ " .
وإسناده صحيح إلى يحيى بن سعيد .
فيتلخص مما سبق أن الأسانيد المتصلة في هذه القصة : لا تصح .
وأنه قد جاء فيها عدة مراسيل من وجوه متعددة .
الناحية الثانية :
أما من ناحية حكم قبول مثل هذه الأسانيد في المغازي والسير ، وتعامل أهل العلم معها ، فنتكلم عنها من ثلاث نقاط :
النقطة الأولى :
ينبغي أن يُعلم أن أهل العلم فرقوا في الرواية وقبول الأخبار بين أحاديث الاعتقاد والحلال والحرام، وبين ما يُروى في المغازي والسير والقصص والزهد والأدب ، وهذا منهج مستقر عند الأوائل .
قال الخطيب البغدادي في "الكفاية" (ص133) :" قد ورد عن غير واحد من السلف : أنه لا يجوز حمل الأحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم ، إلا عمن كان بريئا من التهمة ، بعيدا من الظِّنة .
وأما أحاديث الترغيب والمواعظ ونحو ذلك : فإنه يجوز كتبها عن سائر المشايخ " انتهى .
وروى ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/41) عن سفيان بن عينة أنه قال :" لا تسمعوا من بقية ما كان في سنة ، وأسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره " انتهى .
وروى الحاكم في "المستدرك" (1/666) بسنده عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ ، أنه قال: إِذَا رَوِينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَلَالِ ، وَالْحَرَامِ ، وَالْأَحْكَامِ ، شَدَّدْنَا فِي الْأَسَانِيدِ ، وَانْتَقَدْنَا الرِّجَالَ .
وَإِذَا رَوِينَا فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَالثَّوَابِ ، وَالْعِقَابِ ، وَالْمُبَاحَاتِ ، وَالدَّعَوَاتِ تَسَاهَلْنَا فِي الْأَسَانِيدِ ". انتهى
وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (2/30) :" باب : في الآداب والمواعظ ؛ أنها تحتمل الرواية عن الضعاف .
ثم روى بسنده عن أبيه عن عبدة بن سليمان ، قال : قيل لابن المبارك ، وروى عن رجل حديثاً ، فقيل هذا رجل ضعيف؟
فقال يحتمل أن يروى عنه هذا القدر ، أو مثل هذه الأشياء.
قلت لعبدة: مثل أي شيء كان؟ قال: في أدب ، موعظة ، في زهد" . انتهى
وهذا الإمام أحمد بن حنبل يفرق كذلك بين رواة أحاديث الأحكام وأحاديث المغازي والفضائل .
حيث قد قال الدوري كما في "تاريخ ابن معين - رواية الدوري" (3/60):" سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل، وَسُئِلَ وَهُوَ على بَاب أَبى النَّضر هَاشم بن الْقَاسِم ، فَقيل لَهُ يَا أَبَا عبد الله : مَا تَقول فِي مُوسَى بن عُبَيْدَة الربذي ، وفى مُحَمَّد بن إِسْحَاق ؟
فَقَالَ أما مُحَمَّد بن إِسْحَاق : فَهُوَ رجل تكْتب عَنهُ هَذِه الْأَحَادِيث . كَأَنَّهُ يعْنى الْمَغَازِي وَنَحْوهَا. وَأما مُوسَى بن عُبَيْدَة : فَلم يكن بِهِ بَأْس ، وَلكنه حدث بِأَحَادِيث مَنَاكِير ، عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابن عمر ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم .
فَأَما إِذا جَاءَ الْحَلَال وَالْحرَام : أردنَا قوما هَكَذَا !!
وَقبض أَبُو الْفضل على أَصَابِع يَدَيْهِ الْأَرْبَع ، من كل يَد ، وَلم يضم الْإِبْهَام ، وأرانا أَبُو الْفضل يَدَيْهِ ، وأرانا أَبُو الْعَبَّاس ". انتهى
وفي "طبقات الحنابلة" لأبي يعلى (1/425) ، أن الإمام أحمد قال :" إذا روينا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِي الحلال والحرام : شددنا فِي الأسانيد .
وإذا روينا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فضائل الأعمال ، ومالا يضع حكما ولا يرفعه: تساهلنا في الأسانيد " انتهى .
وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (6/39) :" وَأَحَادِيثُ الْفَضَائِلِ : لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى مَنْ يُحْتَجُّ بِهِ " انتهى .
وقال ابن حجر في "القول المسدد" (ص11) :" الأحاديث التي ذكرها : ليس فيها شيء من أحاديث الأحكام في الحلال والحرام ، والتساهل في إيرادها ، مع ترك البيان بحالها : شائع .
وقد ثبت عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنهم قالوا : إذا روينا في الحلال والحرام شددنا وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا " انتهى .
النقطة الثانية:
أن القصة إذا جاءت من عدة طرق ، فيها ضعف محتمل ، بحيث لا يكون في رواتها كذاب أو متهم ، أو جاءت من عدة مراسيل فإن هذا يدل على أن لها أصلا ، ولا ينبغي ردها بضعف طرقها ، ما دام أنه لا ينبي عليها حكم شرعي ، استقلالا .
قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (13/346) :
" قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ: التَّفْسِيرُ ، وَالْمَلَاحِمُ ، وَالْمَغَازِي .
وَيُرْوَى : لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ ؛ أَيْ : إسْنَادٌ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ ، مِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إسْحَاقَ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ والواقدي وَنَحْوِهِمْ ، فِي الْمَغَازِي .
فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْمَغَازِي : أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، ثُمَّ أَهْلُ الشَّامِ ، ثُمَّ أَهْلُ الْعِرَاقِ .
فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْلَمُ بِهَا ، لِأَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ ، وَأَهْلُ الشَّامِ كَانُوا أَهْلَ غَزْوٍ وَجِهَادٍ ، فَكَانَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِالْجِهَادِ وَالسِّيَرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ ، وَلِهَذَا عَظَّمَ النَّاسُ كِتَابَ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري الَّذِي صَنَّفَهُ فِي ذَلِكَ ، وَجَعَلُوا الأوزاعي أَعْلَمَ بِهَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ.... " .
ثم قال : و" الْمَرَاسِيلُ " إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهَا ، وَخَلَتْ عَنْ الْمُوَاطَأَةِ قَصْدًا ، أَوْ الِاتِّفَاقِ بِغَيْرِ قَصْدٍ : كَانَتْ صَحِيحَةً ، قَطْعًا .
فَإِنَّ النَّقْلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِدْقًا مُطَابِقًا لِلْخَبَرِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ ، أَوْ أَخْطَأَ فِيهِ ؛ فَمَتَى سَلِمَ مِنْ الْكَذِبِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ : كَانَ صِدْقًا بِلَا رَيْبٍ .
فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ جَاءَ مِنْ جِهَتَيْنِ ، أَوْ جِهَاتٍ ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَى اخْتِلَاقهِ ، وَعُلِمَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فِيهِ اتِّفَاقًا ، بِلَا قَصْدٍ : عُلِمَ أَنَّهُ صَحِيح ٌ...
وَلِهَذَا ثَبَتَتْ بِالتَّوَاتُرِ غَزْوَةُ بَدْرٍ ، وَأَنَّهَا قَبْلَ أُحُدٍ . بَلْ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ حَمْزَةَ وَعَلِيًّا وَعُبَيْدَةَ، بَرَزُوا إلَى عتبة وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدِ ، وَأَنَّ عَلِيًّا قَتَلَ الْوَلِيدَ ، وَأَنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ قِرْنَهُ ، ثُمَّ يُشَكُّ فِي قرْنِهِ ، هَلْ هُوَ عتبة أَوْ شَيْبَةُ .
وَهَذَا الْأَصْلُ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ ؛ فَإِنَّهُ أَصْلٌ نَافِعٌ فِي الْجَزْمِ بِكَثِيرِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْمَغَازِي ، وَمَا يُنْقَلُ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ " انتهى .
وقال في "الرد على البكري" (1/76) :
" وقال الإمام أحمد : ثلاثة علوم ليس لها أصول : المغازي ، والملاحم ، والتفسير .
وفي لفظ : ليس لها أسانيد .
ومعنى ذلك : أن الغالب عليها : أنها مرسلة ، ومنقطعة .
فإذا كان الشيء مشهورا عند أهل الفن ، قد تعددت طرقه : فهذا مما يَرجع إليه أهل العلم ؛ بخلاف غيره ". انتهى
النقطة الثالثة :
أن مغازي موسى بن عقبة : تعد من أصح المغازي كما هو معلوم ، وقد أورد قصة الحباب بن المنذر في مغازيه ، كما نقله عنه الذهبي في "تاريخ الإسلام" (2/51) ، وقال :" ذِكْرُ غَزْوَةِ بَدْرٍ مِنْ مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ: فِإنَّهَا مِنْ أَصَحِّ الْمَغَازِي .
قَدْ قَالَ إبراهيم بن المنذر الجزامي: حَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ وَمَعْنٌ وَغَيْرُهُمَا : أَنَّ مَالِكًا كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْمَغَازِي ، قَالَ: عَلَيْكَ بِمَغَازِي الرَّجُلِ الصَّالِحِ ، مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ، فَإِنَّهُ أَصَحُّ الْمَغَازِي ". انتهى
فمما سبق يتبين أن هذه القصة قد رويت من عدة مراسيل ، من وجوه مختلفة ، مما يدل على أن لها أصلا .
ويقوى ذلك أكثر إذا علمنا أن عامة من صنف في المغازي : قد نقلها ، ومن أصحها مغازي موسى بن عقبة كما قدمنا .
ولم نقف على أحد من أهل العلم من المتقدمين : ضعفها ، أو أبطل روايتها .
وما ذكره السائل عن الذهبي وابن كثير أنهما ضعفا القصة : ليس صحيحا .
ثم لم يزل أهل العلم يستشهدون بقصة الحباب بن المنذر ، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأيه يوم بدر .
قال ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (10/356) :" وقد ثبت عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه اجتهد في أمر الحروب وتنفيذ الجيوش ، وقدر الإعطاء للمؤلفة قلوبهم ، وأمر بنصب العريش يوم بدر في موضع ، فقال له الحباب بن المنذر: أبوحي نصبته هنا أم برأيك؟ فقال: بل برأيي. قال: الصواب نصبه بموضع كذا. فسماه النبي (صلى الله عليه وسلم) : ذا الرأيين.
فعمل برأيه ولم ينتظر الوحى " انتهى .
وقال ابن العربي في "أحكام القرآن" (1/391) :" الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران: 159] جَمِيعُ أَصْحَابِهِ ؛ وَرَأَيْت بَعْضَهُمْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّهُمْ أَهْلٌ لِذَلِكَ وَأَحَقُّ بِهِ ، وَلَكِنْ لَا يُقْصَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَصْرُهُ عَلَيْهِمْ دَعْوَى.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي السِّيَرِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الْمَنْزِلِ. فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ ، أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ؟ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلَا نَتَأَخَّرَهُ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ. قَالَ: فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ ؛ انْطَلِقْ بِنَا إلَى أَدْنَى مَاءِ الْقَوْمِ إلَى آخِرِهِ ". انتهى
وقال شيخ الإسلام في "منهاج السنة النبوية" (8/274) :" وَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ ، وَكَانَ أَحْيَانًا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ فِي الرَّأْيِ.
كَمَا قَالَ لَهُ الْحُبَابُ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ: أَهُوَ مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّاهُ ، أَمْ هُوَ الْحَرْبُ وَالرَّأْيُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ: " بَلْ هُوَ الْحَرْبُ وَالرَّأْيُ وَالْمَكِيدَةُ " فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلِ قِتَالٍ. قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى رَأْيِ الْحُبَابِ " انتهى .
فيتلخص مما سبق أن القصة لها أصل مشهور ، مقبول متداول عند عامة أهل السير ، ولم يستنكره أحد من أهل العلم .
وأن أهل العلم يستشهدون بهذه القصة : على مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، والله أعلم .
تعليق