الحمد لله.
أولًا:
سنقدم بين يدي الجواب ملخصًا، لإثبات أن القرآن من الله سبحانه، وقد قمنا بتلخيص هذه الأوجه، من كتاب النبأ العظيم، للدكتور محمد عبدالله دراز رحمه الله .
وقد أخبر القرآن عن مصدره، لكننا سننطلق في الإجابة عن هذا السؤال، بذكر الحجج التي يمكننا أن نصل عبرها للإيمان بأن الله تعالى هو مصدر هذا الكتاب المجيد .
الحجة الأولى: حجة الإقرار .
لقد أقر محمد صلى الله عليه وسلم أن القرآن الذي جاء به ليس من كلامه، وإنما هو وحي أوحاه الله إليه، ونحن نعلم أنه لم يكن لينسب هذا الكلام الذي عجز العرب عن مجاراته ليستجلب مزيدًا من الأتباع، فقد جاء الأمر في القرآن باتباعه، ونعلم أيضًا أن شواهد أحواله، ومعرفتنا بصدقه قبل البعثة، أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله .
الحجة الثانية: أمية النبي صلى الله عليه وسلم .
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ممن يرجع بنفسه لكتب العلم ودواوينه، ومن المتفق عليه : كونه صلى الله عليه وسلم لم يكن يمارس القراءة والكتابة قبل بعثته.
ولا يمكن أن يكون القرآن من استنباط النبي بالذكاء الفطري الذي كان يتمتع به، لأن القرآن قد احتوى على ما لا يمكن أن يستنبط بالعقل ولا بالتفكير، وفيه أيضًا ما لا يدرك بالوجدان ولا بالشعور، كالوقائع التاريخية، والحقائق الدينية الغيبية، والتي جاءت في القرآن بصورة مفصلة، والإخبار بالأمور المستقبلية، والتي وقعت كما أخبر .
الحجة الثالثة: عدم أخذ القرآن عن معلم .
لا يمكن أن يكون القرآن قد أخذ عن معلم، لأن قوم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من الجهل بحيث لا يمكن أن يكون أحدهم معلمًا لمحمد .
ولو فرضنا أن فيهم من يصلح لذلك، فلِمَ لم يأخذوا عنه ، كما أخذ محمد ، بدلًا من مقارعته بالسيوف ؟!
ومن المستحيل أن يكون القرآن قد أخذ عن اليهود والنصارى، ولينظر قائل تلك المقالة إلى حديث القرآن عن أهل الكتاب، وذكره لهم، وكيف يصور القرآن علومهم بأنها الجهالات، وعقائدهم بأنها الخرافات، وأعمالهم بأنها الجرائم والمنكرات .
وفي القرآن ما لا يوجد في كتب أهل الكتاب، كقصة هود وشعيب عليهما السلام، فمن أين أتى بها ؟!
ولا يمكن أن يكون القرآن قد أُخذ عن شعر بعض العرب، كأمية بن أبي الصلت وغيره، لأن القرآن نفى أن يكون شعرًا، ولأن في الشعر ما لا يوجد في القرآن، كوصف الخمر، ونحوها، ولأن العرب لم يدع أحد منهم أن القرآن مسروق أو منحول من الشعر الموجود في ذلك العصر ، أيًا كان قائله .
الحجة الرابعة: التحدي وعجز العرب .
لقد تحدى القرآن العرب، وكرر التحدي عليهم أن يأتوا بمثل القرآن، وظل يتدرج بهم إلى أن وصل أن يأتوا بسور من مثل القرآن، فعجزوا .
أفإن كان القرآن من كلام محمد، فلم عجزت العرب عنه ؟!
إن أحدًا منهم لم يستطع أن يجاريه، ولا أن يطعن في عربيته، ولذا: فإن أي طعن يوجه للقرآن من جهة عربيته ، من طاعن متأخر عن أبي جهل، وأبي لهب ، وأضرابهما : فاعلم أنه باطل في ذاته؛ إذ لو كان صحيحًا لما غفل عنه هؤلاء الأعداء، وهم أبصر الناس باللغة، وأحرصهم على الطعن في القرآن .
الحجة الخامسة: ظاهرة الوحي .
لم يكن الوحي حالة اختيارية تعتري محمدًا صلى الله عليه، بل كان حالة غير اختيارية، وهذا - لمن يؤمن بالغيب - دليل على كون القرآن من عند الله، فقوة الوحي قوة خارجية، لأنها تتصل بنفس محمد حينًا بعد حين، وهي قوة عالمة، وهي قوة أعلى من قوته، لأنها تحدث آثارًا في بدنه، وهي قوة خيرة معصومة، لا توحي إليه إلا الحق، فماذا عسى أن تكون تلك القوة إن لم تكن قوة ملك كريم ؟!
ولم يكن الوحي يعكس شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي أكثر الأوقات لا يذكر عنه شيئًا، وتأمل - مثلًا -: حين مات عمه أبو طالب، وزوجته خديجة، وحزن لذلك حزنًا شديدًا، ومع ذلك لم يشر الوحي إلى ذلك .
بل نجد في الوحي آيات اللوم والعتاب له عليه الصلاة والسلام .
الحجة السادسة: إعجاز القرآن .
لقد جاء القرآن نموذجًا لا يبارى في الأدب العربي، إنه المثل الأعلى لما يمكن أن يسمى أدبًا بوجه عام، فلغته تأخذ بالقلوب، وتفحم بالحجة، وتجلب السرور الهادئ لا الصاخب .
1- لغة القرآن مادة صوتية، تبعد عن طراوة لغة أهل الحضر، وخشونة لغة أهل البادية، إنها تجمع بين رقة الأولى، وجزالة الثانية .
2- إنها ترتيب في مقاطع الكلمات ، في نظام أكثر تماسكًا من النثر، وأقل نظمًا من الشعر .
3-كلماته منتقاة، لا توصف بالغريب إلا نادرًا، تمتاز بالإيجاز العجيب، والنقاء في التعبير .
4- إنه أسلوب يجمع بين العقل والعاطفة على رغم ما بينهما من تباعد .
5- وهو في وحدة سوره، وترتيبها، وتناسق أجزائها : آية ؛ وأي آية ! .
ثانيًا:
لا يصح القول : إن العرب انصرفت هممهم عن معارضة القرآن، لأمور:
1- لأن الأسباب الباعثة على المعارضة كانت موفورة متضافرة، سيما مع استثارة حميتهم، والدعوة التي تكررت لهذه المعارضة، ولهي أهون عليهم مما قاموا به .
2- أن العرب قعدوا حتى عن تجربة المعارضة، ولم يشرع منهم إلا أقلهم عددًا، وأسفههم رأيًا، إذًا: فلقد كانوا في غنى بهذا العلم الضروري عن طلب الدليل عليه بالمحاولات والتجارب .
لقد كان القرآن نفسه مثار عجبهم وإعجابهم، ولقد كانوا يخرون سجدًا لسماعه .
يقول الدكتور دراز: " الشبهة الثالثة : شبهة القائل بأن عدم معارضة العرب لأسلوب القرآن ، ربما كان بسبب انصرافهم ، لا بسبب عجزهم:
فإن قال لنا: نعم، قد علمتُ أنه لم يأتِ أحد بشيء في معارضة القرآن، ولكن ليس كل ما لم يفعله الناس ، يكون خارجًا عن حدود قدرتهم، فربما ترك الإنسان فعلًا هو من جنس أفعاله الاختيارية :
لعدم قيام الأسباب التي من شأنها أن تبعث عليه .
أو لأن صارفًا إلهيًّا ثبط همته ، وصرف إرادته عنه ، مع توافر الأسباب الداعية إليه .
أو لأن عارضًا فجائيًّا عطَّل آلاته ، وعاق قدرته عن إحداث ذلك الفعل ، بعد توجه إرادته نحوه .
فعلى الفرضين الأولين : يكون عدم معارضة القرآن : قلة اكتراث بشأنه ، لا عجزًا عن الإتيان بمثله، وعلى الفرض الأخير يكون تركه عجزًا عنه حقًّا، لكن ليس لمانع فيه من جهة علو طبقته عن مستوى القدرة البشرية، بل لمانع خارجي ، هو حماية القدرة العليا له، وصيانتها إياه عن معارضة المعارضين، ولو أزيل هذا المانع لجاء الناس بمثله.
= قلنا له:
هذه الفروض كلها لا تنطبق على موضوعنا بحال :
أما الأول: فإن الأسباب الباعثة على المعارضة ، كانت موفورة متضافرة، وأي شيء أقوى في استثارة حمية خصمك من ذلك التقريع البليغ المتكرر الذي توجهه إليه ، معلنًا فيه عجزه عن مضاهاة عملك؟
إن هذا التحدي كافٍ وحده في إثارة حفيظة الجبان ، وإشعال همته للدفاع عن نفسه بما تبلغه طاقته ؛ فكيف لو كان الذي تتحداه مجبولًا على الأنفة والحمية؟ وكيف لو كان العمل الذي تتحداه به هو صناعته التي بها يفاخر، والتي هو فيها المدرب الماهر؟ وكيف لو كنت مع ذلك ترميه بسفاهة الرأي وضلال الطريق؟ وكيف لو كنت تبتغي من وراء هذه الحرب الجدلية هدم عقائده، ومحو عوائده وقطع الصلة بين ماضيه ومستقبله؟
وأما الثاني: فإن هذه الأسباب قد رأيناها آتت بالفعل ثمراتها، وأيقظت همم المعارضين إلى أبعد حدودها. حتى كان أمر محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والقرآن هو شغلهم الشاغل، وهمهم الناصب، فلم يَدَعُوا وسيلة من الوسائل لمقاومته ، باللطف ، أو بالعنف ؛ إلا استنبطوها ، وتذرعوا بها:
أيخادعونه عن دينه ليلين لهم ، ويركن قليلًا إلى دينهم ؟
أم يساومونه بالمال والملك ليكف عن دعوته ؟
أم يتواصون بمقاطعته، وبحبس الزاد عنه وعن عشيرته الأقربين، حتى يموتوا جوعًا أو يُسلموه ؟
أم يمنعون صوت القرآن أن يخرج من دور المسلمين ، خشية أن يسمعه أحد من أبنائهم ؟
أم يلقون فيه الشبهات والمطاعن ؟
أم يتهمون صاحبه بالسحر والجنون، ليصدوا عنه من لا يعرفه من القبائل القادمة في المواسم؟
أم يمكرون به ، ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه ؟
أم يخاطرون بمهجهم وأموالهم وأهليهم في محاربته ؟
= أفكان هذا كله تشاغلًا عن القرآن ، وقلة عناية بشأنه ؟!
ثم لماذا كل هذا ، وهو قد دلهم على أن الطريق الوحيد لإسكاته : هو أن يجيئوه بكلام مثل الذي جاءهم به؟
ألم يكن ذلك أقرب إليهم ، وأبقى عليهم ، لو كان أمره في يدهم؟
ولكنهم طرقوا الأبواب كلها ؛ إلا هذا الباب، وكان القتل والأسر والفقر والذل ؛ كل أولئك أهون عليهم من ركوب هذا الطريق الوعر ، الذي دلهم عليه !!
فأي شيء يكون العجز ؛ إن لم يكن هذا هو العجز ؟!
لا ريب أن هذه الحملات كلها لم تكن موجهة إلى شخص النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه، فقد كانوا من قبلُ تعطفهم عليهم أرحامهم، وتحببهم إليهم مكارم أخلاقهم.
كما أنها لم تكن موجهة إلى القرآن في الصدور ، ولا في داخل البيوت؛ فقد قبلوا منهم أن يعبد كل امرئ ربه في بيته كيف يشاء.
إنما كانت مصوبة إلى هدف واحد، ومقاومة لخطر واحد، هو إعلان هذا القرآن ، ونشره بين العرب !!
ولا يهجسنَّ في رُوعك أنهم ما نقموا من الإعلان بالقرآن ، إلا أنه دعوة جديدة ، إلى دين جديد فحسب !!
كلا ؛ فقد كان في العرب حنفاء ، من فحول الخطباء والشعراء؛ كقُس بن ساعدة، وأمية بن أبي الصلت، وغيرهما، وكانت خطبهم وأشعارهم مشحونة بالدعوة إلى ما دعا إليه القرآن من دين الفطرة ؛ فما بالهم قد أهمهم من أمر محمد وقرآنه ما لم يعنهم من أمر غيره؟
ما ذاك إلا أنهم وجدوا له شأنًا آخر ، لا يشبه شأن الناس .
وأنهم أحسوا في قرآنه قوةً غلّابة ، وتيارًا جارفًا ، يريد أن يبسط سلطانه ، حيث يصل صدى صوته .
وأنهم لم يجدوا سبيلًا لمقاومته ، عن طريق المعارضة الكلامية التي هي هجيراهم، والتي هي الطريق المباشر الذي تحداهم به، فلا جرم كان الطريق الوحيد عندهم لمقاومته : هو الحيلولة بمختلف الوسائل بين هذا القرآن وبين الناس ، مهما كلفهم ذلك من تضحية !!
وكذلك فعلوا، وكذلك مضت السنة فيمن بعدهم من أعداء القرآن ، إلى يومنا هذا !!
وأما الثالث: فإنه لو كان عجزهم عن مضاهاة القرآن لعارضٍ أصابهم ، حال بينهم وبين شيء في مقدورهم = لما استبان لهم ذلك العجز إلا بعد أن يبسطوا ألسنتهم إليه، ويجربوا قدرتهم عليه؛ لأنه ما كان لامرئ أن يحس بزوال قدرته عن شيء كان يقدر عليه ، كقدرته على القيام والقعود، إلا بعد محاولة وتجربة ؟!
ونحن قد علمنا أنهم قعدوا عن هذه التجربة، ولم يشرع منهم في هذه المحاولة ، إلا أقلهم عددًا، وأسفههم رأيًا.
فكان ذلك آية على يأسهم الطبيعي من أنفسهم، وعلى شعورهم بأن عجزهم عنهم عجز فطري عتيد، كعجزهم عن إزالة الجبال، وعن تناول النجوم من السماء، وأنهم كانوا في غنى بهذا العلم الضروري ، عن طلب الدليل عليه بالمحاولات والتجارب !!
على أنهم لو كانوا لم يعرفوا عجزهم عنه ، بادئ ذي بدء، وإنما أدركهم العجز بعد شعورهم بأنه في مستوى كلامهم، لكان عجبهم إذًا من أنفسهم: كيف عَيُوا به ، وهو منهم على طرف الثُّمام؟ ولجعلوا يتساءلون فيما بينهم : أي داء أصابنا ، فعقد ألسنتنا عن معارضة هذا الكلام ، الذي هو ككل كلام؟
أو لرجعوا إلى بيانهم القديم ، قبل أن يصيبهم العجز ؛ فجاءوا بشيء منه في محاذاته !!
ولكنهم لم يجيئوا فيه بقديم ، ولا جديد !!
وكان القرآن - نفسه - هو مثار عجبهم ، وإعجابهم ؛ حتى إنهم كانوا يخرون سُجَّدًا لسماعه ، من قبل أن تمضي مهلة يوازنون فيها بينه وبين كلامهم !!
بل إن منهم من كان يغلبه هذا الشعور ، فيفيض على لسانه اعترافًا صحيحًا: "ما هذا بقول بشر". انتهى، من النبأ العظيم: (114 - 118).
ويمكن مراجعة الأجوبة الآتية، وفيها أدلة على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم (13804)، (245475)، (34234).
والله أعلم
تعليق