الحمد لله.
أولا:
الانتحار – وهو قتل النفس – كبيرة من كبائر الذنوب، ولا يحل لأحدٍ أن يقدِم عليه ، مهما بلغت ظروفه قسوةً، أو خاف أن يقع في الكفر، أو في المعصية، أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا) النساء/29، 30
وروى البخاري ( 5442)، ومسلم ( 109 ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا).
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ في الدُّنْيَا: عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه البخاري (5700)، ومسلم (110).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “ويؤخذ منه أن جناية الإنسان على نفسه، كجنايته على غيره في الإثم؛ لأن نفسه ليست ملكا له مطلقا، بل هي لله تعالى، فلا يتصرف فيها إلا بما أذن له فيه” انتهى من “فتح الباري” (11/ 539).
وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكيناً فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات. قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة) رواه البخاري (3276)، ومسلم (113).
ثانيا:
من انتحر بشرب المخدرات، أي شرب كمية منها ليموت، فهذا منتحر، وقد سبق الحديث أن من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، والله أعلم بكيفية ذلك.
وأما من لم يقصد الموت بشرب المخدرات، لكنه شربها وأدمنها، فأدى ذلك لموته، فلا يعد منتحرا، لكنه مرتكب لكبيرة تناول المسكر، وكفى بذلك إثما.
وينظر: جواب السؤال رقم: (129692).
ثالثا:
قد ورد النهي عن تمني الموت؛ لأن الإنسان إن كان محسنا، فلعله يزداد من الحسنات في حياته، وإن كان مسيئا فلعله يتوب ويرجع.
فعن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ , وَلا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ ، وَإِنَّهُ لا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلا خَيْرًا ) رواه مسلم (2682).
وعند البخاري (7235) بلفظ: ( لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ).
فالتفكير في الانتحار فعل اليائس العاجز، ولا ينتقل به إلى راحة وخير، بل ينتقل إلى بؤس وعذاب وغضب من الله.
رابعا:
قولك: ” وإذا انتحر المسلم خوفا من الفتنة كأن يخشى أن يكفر بالله من شدة ظروفه أو يقع في معصية؟” الظاهر أن المراد بذلك شدة الفقر والحاجة، وإذا كان كذلك فهذا انتحار لأجل ضرّ أصابه، وهذا هو الحامل على الانتحار عادة، وهو دليل على قلة الإيمان وفقدان البصيرة، فإن أبواب الرزق كثيرة وبإمكان المرء أن يعمل ويسافر ويتكسّب، وأن يصبر على شدة العيش كما كان يصبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ولهذا فإن تقوية الإيمان من أهم أسباب البعد عن هذه الجريمة.
وأين هذا المبتلى من قوله تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ) النمل/62. وقوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) غافر/60، فليلجأ إلى الله تعالى، وليكثر من دعائه والتضرع إليه أن يرزقه ويوسع عليه وينزل السكينة على قلبه.
ثم إن العاقل لا يتخلص من بلاء ببلاء أشد منه؛ فعلَ المستجير من الرمضاء بالنار!! فإن نكد الدنيا وهمها وبلاءها: لا يساوي شيئا أمام عذاب الآخرة، فهبه تخلص بالانتحار من شقاء الدنيا، فما ينتظره من شقاء الآخرة أعظم، فيكون بذلك قد جمع بين الشقاءين، والعياذ بالله.
وأما أهل الإيمان فإن نالهم الضر في الدنيا، صبروا واحتسبوا، وأمّلوا الفرج من الله، ورجوا أعظم السعادة في الآخرة التي هي الحياة الحقيقية الباقية.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) رواه مسلم (2999).
نسأل الله أن يمن علينا بالإيمان واليقين والرضا.
والله أعلم.
تعليق