الاثنين 3 جمادى الأولى 1446 - 4 نوفمبر 2024
العربية

قتل حمامة بمكة من غير قصد

289239

تاريخ النشر : 12-11-2019

المشاهدات : 34460

السؤال

كنت فى مكة أنا وأسرتى لعمل عمرة، وبعد الإنتهاء من العمرة والتحلل وأثناء السير بالسيارة التى أقودها فوجئت بحمامة على الأرض فى منتصف الطريق السريع بمنطقة منى، توقعت أنها ستطير مع اقترابى منها، ولكن للأسف عندما وصلت لمنطقة العزيزية وتوقفت لشراء أغراض وجدتها ميتة ، وعالقة بمقدمة السيارة من أسفل ، فهل على شيء ؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

الحمام من الصيد؛ وقتل الصيد في الحرم محرم؛ لقوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ  المائدة /95.

قال ابن العربي رحمه الله تعالى:

" والقتل: كل فعل يُفيت الروح، وهو أنواع: منها الذبح والنحر، والخنق والرضخ وشبهه؛ فحرم الله تعالى على المحرم في الصيد كلّ فعل يكون مفيتا للروح " انتهى من "أحكام القرآن" (2 / 664).

وقوله تعالى: ( وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) يتناول من دخل في حال الإحرام بالحج والعمرة، وكذا يتناول من دخل في المكان الذي داخل حدود الحرم.

قال ابن العربي رحمه الله تعالى:

" عام في التحريم بالزمان، وفي التحريم بالمكان، وفي التحريم بحالة الإحرام، إلا أن تحريم الزمان خرج بالإجماع عن أن يكون معتبرا، وبقي تحريم المكان وحالة الإحرام على أصل التكليف " انتهى من "أحكام القرآن" (2 / 666).

والآية نصت على وجوب الجزاء في القتل العمد للصيد:  وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ .

وألحق أهل العلم بالعامد المخطئ والناسي.

روى عبد الرزاق في "المصنف" (4 / 391): قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: ( يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ، وَهُوَ فِي الْخَطَإِ سُنَّةٌ ).

ولعل قصده بالسنة هنا آثار بعض الصحابة.

قال ابن العربي رحمه الله تعالى:

" وأما من قال: إنه وجب في النسيان بالسنة، فإن كان يريد به الآثار التي وردت عن ابن عباس وابن عمر فنعما هي، وما أحسنها أسوة " انتهى من "أحكام القرآن" (2 / 669).

وكذا عموم السنة حيث لم تفصّل.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" والجمهور القائلون بوجوب الجزاء على المخطئ يثبتون ذلك بعموم السنة والآثار ... " انتهى من "منهاج السنة" (4 / 71).

وقال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" واحتج أهل هذا القول: بأنه -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الضبع، فقال: ( هي صيد )، وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا، ولم يقل: عمدا ولا خطأ، فدل على العموم " انتهى من "أضواء البيان" (2 / 170).

وهذا القول هو الذي عليه جماهير أهل العلم، وهو أن غير المتعمد مرفوع عنه الإثم، أما اخراج الجزاء فواجب عليه.

قال عبد الرزاق الصنعاني بعد ذكره لقول الزهري:

" وَهُوَ قَوْلُ النَّاسِ، وَبِهِ نَأْخُذُ". "المصنف" (4 / 392).

وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:

" فقال جمهور العلماء، وجماعة الفقهاء، أهل الفتوى بالأمصار؛ منهم مالك، والليث، والثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: قتل الصيد عمدا أو خطأ سواء.

وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو جعفر الطبري ...

وأما وجه ما ذهب إليه الجمهور، الذي لا يجوز عليهم تحريف تأويل الكتاب، فإن الصحابة رضى الله عنهم؛ منهم عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، قضوا في الضبع بكبش، وفي الظبي بشاة، وفي النعامة ببدنة، ولم يفرقوا بين العامد والمخطئ في ذلك ...

ومن جهة النظر أن إتلاف أموال المسلمين وأهل الذمة، يستوي في ذلك العمد والخطأ، وكذلك الصيد؛ لأنه ممنوع منه، محرَّم على المُحْرِم، كما أن أموال بعض المسلمين محرمة على بعض.

وكذلك الدماء، لما كانت محرمة في العمد والخطأ وجعل الله في الخطأ منها الكفارة، فكذلك الصيد؛ لأن الله تعالى سماه كفارة طعام مساكين.

وقد أجمعوا على أن قوله عليه السلام: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان )، ليس في إتلاف الأموال، وإنما المراد به رفع المآثم.

وهذا كله يدل على أن العمد والخطأ سواء، وإنما خرج ذكر العمد -أي في الآية- على الأغلب، والله أعلم " انتهى من "الإستذكار" (13 / 282 - 285).

ثانيا:

وجزاء قتل الحمامة هو شاة.

فقد روي أن  عمر رضي الله عنه حكم فيها بذلك، روى ذلك الشافعي في "الأم" (3 / 502 - 503)، وحسن اسناده المنذري كما قال ابن الملقن في "البدر المنير" (16 / 203)، والحافظ ابن حجر في "التلخيص" (4 / 1694)؛ لكن في اسناد رواية الشافعي طلحة بن أبي حفصة وقد حُكم عليه بالجهالة، وذكره ابن حبان في الثقات.

قال الحافظ ابن حجر في "تعجيل المنفعة" (1 / 690 - 691):

" طلحة بن أبي خصفة، ويقال ابن أبي حفصة، عن نافع بن عبد الحارث، وعنه عبد الله بن كثير، مجهول.

قلت: ذكره ابن حبان في "الثقات" في الطبقة الأولى..." انتهى.

وبمثل ما روي عن عمر حكم ابن عباس رضي الله عنهما.

روى عَبْدُ الرَّزَّاقِ في "المصنف" (4 / 415)  عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ( فِي الْحَمَامَةِ شَاةٌ ).

وأخرجه البيهقي في "السنن" (10 / 369) من طريق عبد الملك عن عطاء عن ابن عباس، وصحح إسناده الألباني في "إرواء الغليل" (4 / 247).

وروي مثل هذا عن ابن عمر رضي الله عنه وبعض التابعين.

قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:

" حكم عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، في حمام مكة بشاة، ولا مخالف لهما من الصحابة " انتهى من "الاستذكار" (13 / 290).

وحكم الصحابة يتبع.

قال النووي رحمه الله تعالى:

" قال أصحابنا: مذهبنا أن ما حكمت الصحابة رضي الله عنهم فيه بمثل فهو مثله، ولا يدخله بعدهم اجتهاد ولا حكم، وبه قال عطاء واحمد وإسحق وداود ...

دليلنا أن الله تعالى قال: ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) وقد حكما ، فلا يجب تكرار الحكم " انتهى من "المجموع" (7 / 439).

ثالثا:

كفارة قتل الصيد جاءت بـ "أو" التي تفيد التخيير؛ حيث قال الله تعالى:

 يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ  المائدة /95.

وبالتخيير قال جمهور أهل العلم.

قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" وإذا عرفت التحقيق في الجزاء بالمثل من النعم، فاعلم أن قاتل الصيد مخير بينه، وبين الإطعام، والصيام، كما هو صريح الآية الكريمة؛ لأن ( أو ) حرف تخيير، وقد قال تعالى: ( أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )، وعليه جمهور العلماء " انتهى من "أضواء البيان" (2 / 176 - 177).

فالواجب أن يهدي مثل ما قتل من النعم؛ وفي هذه المسألة المثل هو شاة، كما سبق بيانه.

أو  كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ؛ وذلك بأن يقوِّم المثل وهو الشاة بالنقود؛ فيشتري بالقيمة طعاما ، ويتصدق به على مساكين الحرم؛ وهذا هو مذهب الشافعية؛ والمذهب عند الحنابلة.

قال النووي رحمه الله تعالى:

" إذا قتل المحرم صيدا ، أو قتله الحلال في الحرم؛ فإن كان له مثل من النعم ، وجب فيه الجزاء بالإجماع، ومذهبنا أنه مخير بين ذبح المثل والإطعام بقيمته... " انتهى من "المجموع" (7 / 438).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" إذا كفر بالطعام: فلا يخلو إما أن تكون الصدقة مما له مثل، أو مما لا مثل له.

فإن كان له مثل: فلا بد من معرفة المثل، ثم يقوم المثل فيشترى بقيمته طعام. هذا أشهر الروايتين عن أبي عبد الله ... "انتهى من "شرح العمدة" (3 / 321).

وقول ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه سعيد بن منصور: عن جرير، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "فِي قَوْلِهِ:   فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ  قَالَ: إِذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ ، يَحْكُمُ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ جَزَاؤُهُ ذَبَحَهُ، وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ جَزَاؤُهُ ، قُوِّمَ جَزَاؤُهُ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قُوِّمَتِ الدَّرَاهِمُ طَعَامًا، فَصَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِالطَّعَامِ: الصِّيَامُ، وَأنَّهُ إِذَا وُجِدَ الطَّعَامُ، وُجِدَ جَزَاؤُهُ " رواه سعيد بن منصور في "سننه، كتاب التفسير" (4 / 1622)، والطبري في "تفسيره" (8 / 698).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:

" قوله تعالى: ( أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ) الكفارة ما بَيَّنَها الله عزّ وجل، ولكن يقال: إن البدل له حكم المبدل، فتكون الكفارة تساوي المثل أو الصيد، والقرآن ليس فيه إفصاح بهذا ولا هذا؛ ولذلك اختلف العلماء، هل الذي يقوم الصيد أو المثل؟

المذهب: أن الذي يقوم المثل؛ لأنه هو الواجب في الكفارة أصلا، فإذا كان هو الواجب أصلا فالواجب قيمته، فَيُقَوَّمُ المثل بدراهم يشتري بها طعاما، ويطعم كل مسكين مُدّا، وهو الراجح ، وهو أقرب إلى قواعد الشرع : أن الذي يقوم المثل، سواء قلَّت قيمته عن الصيد أو زادت " انتهى من "الشرح الممتع" (7 / 172).

أو( عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا )، أي: أو يصوم عن  طعام كل مسكين يوما، أي عن كل مد، ويحتمل أن يكون عن كل نصف صاع، كما أفتى بذلك ابن عباس، وقد سبق ذكر روايته.

الخلاصة:

عدم تعمدك قتل حمام الحرم، يرفع عنك الإثم؛ لكن لا يسقط عنك الجزاء، وهذا هو مذهب جماهير أهل العلم؛ لا سيما وما وصفته من الحال ، ليس يخلو من نوع تفريط منك ؛ فقد كان عليك أن تجتهد في تفادي الحمامة ، لا أن تدع لذلك لطيرانها هي ، طارت ، أو وقعت .

فإذا قتل شخص حمامة من حمام مكة؛ يقال له:

" أنت بالخيار اذبح شاة وتصدق بها على فقراء الحرم، أو قوِّم الشاة بدراهم، وأخرج بدل الدراهم طعاماً، ولا تخرج الدراهم؛ لأنه قال: ( أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ )، فإذا قدرنا الشاة بمائتي ريالٍ، وقدرنا الطعام كل صاع بريال، فتكون مائتي صاع يساوي ثمانمائة مد، فنقول: إن شئت أخرج الطعام، وإن شئت ، اعدل عن الطعام وصم ثمانمائة يوم ؛ لأنه عن كل مد يوماً فسيختار إما الشاة، وإما الإطعام؛ لأن الصيام سيكون شاقاً، لكن -الحمد لله- الأمر واسع؛ لأنه على التخيير " انتهى من "الشرح الممتع" (7 / 173).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب