الحمد لله.
أولا :
ينبغي للمسلم أن يكون معظما لليمين بالله تعالى ، فلا يحلف به إلا في الأمور الهامة التي تحتاج إلى التوكيد باليمين ، أما اللعب واللهو – حتى وإن كان مباحا- فاسم الله تعالى أجل وأعظم من أن يحلف به على شيء من ذلك .
ثانيا :
اختلف أهل العلم فيمن حلف على فعل شيء ، ثم حصل مانع خارج عن قدرته وإرادته ، فلم يستطع فعل ما حلف عليه ، هل يحنث أم لا ؟
على قولين :
القول الأول : يحنث وعليه الكفارة؛ وهو مذهب الحنابلة ، وأحد قولي الشافعي؛ لأنه لم يفعل ما حلف عليه من غير إكراه ولا نسيان .
والقول الثاني : لا حنث عليه؛ لأنه فَقَد الفعل بغير اختياره.
قال ابن قدامة شارحا قول الخرقي : (وَلَوْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ فِي غَدٍ، فَمَاتَ الْحَالِفُ مِنْ يَوْمِهِ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ، حَنِثَ)
"إذا مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ يَوْمِهِ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ. وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَحْنَث، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ ضَرْبَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلَمْ يَحْنَثْ، كَالْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي..." انتهى من "المغني" (9/585) .
وقول الجمهور أرجح؛ لأن البرّ والحنث في اليمين ، نظير الطاعة والمعصية في الأوامر والنواهي، فإذا كان الذي يفعل المعصية ، أو يترك الواجب ، لسبب خارج عن إرادته وقدرته لا يعدّ عاصيا، فكذلك الذي لا يبرّ بيمينه ، لسبب خارج عن إرادته وقدرته : لا يكون حانثًا.
قال ابن القيم :
"الْبِرَّ وَالْحِنْثَ فِي الْيَمِينِ : نَظِيرُ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِنْ فَعَلَ الْمُكَلَّفُ ذَلِكَ فِي أَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا، فَأَوْلَى فِي بَابِ الْيَمِينِ أَنْ لَا يَكُونَ حَانِثًا.
وَيُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إنَّمَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ مَا يَمْلِكُهُ، وَالنِّسْيَانُ وَالْجَهْلُ وَالْخَطَأُ وَالْإِكْرَاهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ، فَمَا فَعَلَهُ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ يَمِينُهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ مَنْعَ نَفْسِهِ مِنْهُ...
يُوَضِّحُهُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا رَتَّبَ الْأَحْكَامَ عَلَى الْأَلْفَاظِ؛ لِدَلَاتِهَا عَلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا، وَإِرَادَتِهِ، فَإِذَا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ قَصَدَ كَلَامَهَا، وَلَمْ يَقْصِدْ مَعَانِيَهَا، وَلَمْ يَقْصِدْ مُخَالَفَةَ مَا الْتَزَمَهُ ، وَلَا الْحِنْثَ ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَا يُلْزِمُهُ بِمَا لَمْ يَقْصِدْهُ، بَلْ قَدْ رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنْهُ بِمَا لَمْ يَقْصِدْهُ مِنْ ذَلِكَ..."
وقال : فِي تَعَذُّرِ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَعَجْزِ الْحَالِفِ عَنْهُ:
"الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ، وَلَمْ يَلْتَزِمْ فِعْلَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلَا تَدْخُلُ حَالَةُ الْعَجْزِ تَحْتَ يَمِينِهِ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ قَدْ قَالُوهُ فِي الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي وَالْمُخْطِئِ، وَالتَّفْرِيقُ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ .
فَاَلَّذِي يَلِيقُ بِقَوَاعِدِ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ : أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي صُورَةِ الْعَجْزِ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَجْزُ لِمَنْعٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ مَنْعٍ كَوْنِيٍّ قَدَرِيٍّ، كَمَا هُوَ قَوْلُهُ فِيمَا لَوْ كَانَ الْعَجْزُ لِإِكْرَاهِ مُكْرِهٍ .
وَنَصُّهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ رِوَايَةٌ مُخَرَّجَةٌ مِنْ أُصُولِهِ الْمَذْكُورَةِ...
وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ يَمِينَهُ لَمْ تَتَنَاوَلْ الْمَعْجُوزَ عَنْهُ ، لَا شَرْعًا وَلَا قَدَرًا ؛ فَلَا يَحْنَثُ بِتَرْكِهِ...
يُوَضِّحُهُ : أَنَّ الْحَالِفَ يَعْلَمُ أَنَّ سِرَّ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ فِعْلَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مَعَ الْعَجْزِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ الْمَغْلُوبُ عَلَى الْفِعْلِ بِنِسْيَانٍ أَوْ إكْرَاهٍ، وَلَا مَنْ لَا قَصْدَ لَهُ إلَيْهِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَزَائِلِ الْعَقْلِ .
وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ .
وَهُوَ مُقْتَضَى أُصُولِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ خِلَافَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ: إذَا حَلَفَ أَنْ يَشْرَبَ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْإِنَاءِ، فَانْصَبَّ ، فَقَدْ حَنِثَ، وَلَوْ حَلَفَ أَنْ يَأْكُلَ رَغِيفًا ، فَجَاءَ كَلْبٌ ، فَأَكَلَهُ فَقَدْ حَنِثَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى غَرِيمِهِ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ مَالَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ مُخَاتَلَةً ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَهَذَا .
وَأَمْثَالُهُ مِنْ نُصُوصِهِ : مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي وَالْجَاهِلِ : "إنَّهُ يَحْنَثُ" ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ ، فَحُمِلَ كُرْهًا ، فَأُدْخِلَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ .
وَكَذَلِكَ نَصَّ عَلَى حِنْثِ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ ؛ فَقَدْ جَعَلَ النَّاسِيَ وَالْجَاهِلَ وَالْمُكْرَهَ وَالْعَاجِزَ بِمَنْزِلَةٍ . وَنَصَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ ، فَحُمِلَ كُرْهًا فَأُدْخِلَ : فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ: وَالذُّبَابُ يَدْخُلُ حَلْقَ الصَّائِمِ ، وَالرَّجُلِ يَرْمِي بِالشَّيْءِ فَيَدْخُلُ حَلْقَ الْآخَرِ ، وَكُلُّ أَمْرٍ غُلِبَ عَلَيْهِ : فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَلَا غَيْرُهُ .
وَتَوَاتَرَتْ نُصُوصُهُ : فِيمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا ؛ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ .
فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ النَّاسِي وَالْمَغْلُوبِ، وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْفِقْهِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي بَابِ الْأَيْمَانِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُكْرَهِ .
فَتُخَرَّجُ مَسْأَلَةُ الْعَاجِزِ وَالْمَغْلُوبِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، بَلْ الْمَغْلُوبُ وَالْعَاجِزُ أَوْلَى بِعَدَمِ الْحِنْثِ مِنْ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ" انتهى مختصرا من "إعلام الموقعين" (4/65-73) .
وقال الشيخ ابن عثيمين:
"الحنث مبني على التأثيم، فمتى كان الإنسان يأثم في الحكم الشرعي ، حَنِثَ في اليمين .
وإذا كان لا يأثم لم يحنث" انتهى من "الشرح الممتع" (15/199) .
والخلاصة :
بما أنك لم تفعلي ما حلفتِ عليه لسبب خارج عن قدرتك فلا حنث عليكِ .
والله أعلم .
تعليق