الاثنين 22 جمادى الآخرة 1446 - 23 ديسمبر 2024
العربية

حزن يعقوب عليه السلام، هل يخالف الرضا؟

295649

تاريخ النشر : 13-12-2018

المشاهدات : 62530

السؤال

يقول بعض أهل العلم : إن الدرجة التي فوق الصبر هي درجة الرضا؛ وأنه من وصل إلى درجة الرضا كان سواء عنده وقوع المصيبة أو عدم وقوعها ؛ لأن راض رضا تاما بقضاء الله وقدره ، فلا يجزع ، ولا يحزن ، ولكن هناك إشكال في هذا القول ، والإشكال هنا هو : أن نبي الله يعقوب ابيضت عيناه من الحزن عندما ابتلاه الله بفقدان يوسف عليه السلام ، وهذا يدل على أن يعقوب عليه السلام تأثر تأثرا كبيرا بما ابتلاه الله به ، ولا يمكن أن يقول أحد أن وقوع المصيبة أو عدم وقوعها هنا كانت سواء عنده ، وفي نفس الوقت لا يمكن أن يقول أحد أن نبي الله يعقوب ليس براض بما قضاه الله ، فما الجواب على هذا الإشكال ؟

الجواب

الحمد لله.

الرضا بقضاء الله وقدره الجاري على العبد بخلاف ما تحبه نفسه وتهواه هو من العبادات المستحبة ، ومن المقامات العالية لأهل الإيمان .

قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

" والرضا بالقضاء الكوني القدري، الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته مما لا يلائمه. ولا يدخل تحت اختياره - مستحب. وهو من مقامات أهل الإيمان وفي وجوبه قولان. وهذا كالمرض والفقر، وأذى الخلق له، والحر والبرد، والآلام ونحو ذلك  " .

انتهى من "مدارج السالكين" (3 / 1930 - 1931).

والرضا أعلى من الصبر ، فهو صبر وزيادة ؛ لأن الصابر يمسك نفسه عن التسخط والشكوى، مع أن قلبه قلق يتمنى لو أنه لم ينزل به هذا البلاء.

أما الراضي ، فمع إمساكه لنفسه عن التسخط والشكوى ؛ فهو مطمئن القلب ، منشرح الصدر بهذا القضاء .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :

" و"الصبر" واجب باتفاق العلماء، وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله .

و"الرضا" قد قيل : إنه واجب، وقيل: هو مستحب ، وهو الصحيح .

وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها، حيث جعلها سببا لتكفير خطاياه ، ورفع درجاته، وإنابته وتضرعه إليه ، وإخلاصه له في التوكل عليه ورجائه دون المخلوقين " انتهى  من"مجموع الفتاوى" (11 / 260).

والرضا لا يبطل بمجرد التألم أو الحزن ، فإن الإنسان قد يتألم بمقتضى طبيعته البشرية ، وهو مع ذلك راض بما قدره الله وقضاه .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" اختلاج المصيبةِ في السر لا يُنافي الرضا باتفاق العقلاء [أي: اضطراب المصيبة في نفس الإنسان] ، ولا يدخل هذا في التكليف ، فضلاً عن أن يكون ذنبًا، أو أن يستحق صاحبُه زوالَ نبوّته " انتهى من "جامع المسائل" (4 / 75).

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى :

" وليس من شرط "الرضا" ألا يحس بالألم والمكاره ؛ بل ألّا يعترض على الحكم، ولا يتسخّطه، ولهذا أشكل على بعض الناس الرضا بالمكروه، وطعنوا فيه. وقالوا: هذا ممتنع على الطبيعة، وإنما هو الصبر، وإلا فكيف يجتمع الرضا والكراهة، وهما ضدان ؟

والصواب: أنه لا تناقض بينهما، وأن وجود التألم، وكراهة النفس له : لا ينافي الرضى، كرضى المريض بشرب الدواء الكريه، ورضى الصائم في اليوم الشديد الحر بما يناله من ألم الجوع والظمأ، ورضى المجاهد بما يحصل له في سبيل الله من ألم الجراح، وغيرها " انتهى من "مدارج السالكين" (3 / 1888 – 1889).

ومعنى هذا أن الرضا بالمصيبة يكون من وجه ، ويكرهها ويتألم بها من وجه آخر .

ومما يقطع بهذا أن أفضل الخلق عند الله منزلة وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، حصل منه الحزن عند المصيبة.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهُ، وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ - وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ-، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ:  يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ  ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ "  رواه البخاري (1303) ، ومسلم (2315).

فهذا صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم حزن على فراق ابنه إبراهيم ، ومن المقطوع به أن هذا الحزن لا ينافي الرضا ، لأنه حزن فطري جبل الإنسان عليه .

وهكذا كان حزن يعقوب عليه السلام .

قال الله تعالى :  وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ   يوسف/84 – 86.

قال ابن العربي رحمه الله تعالى:

" كان يعقوب حزينا في الدرجة التي قد بيناها، ولكن حزنه كان في قلبه جِبِلّة، ولم يكسب لسانَه قولا قلقا يخالف الشريعة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابنه في صحيح الخبر:( تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون ). وقال أيضا في الصحيح - صلى الله عليه وسلم -: ( إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب وإنما يعذب بهذا وأشار إلى لسانه، أو يرحم ).

وهو تفضل منه سبحانه، حين علم عجز الخلق عن الصبر؛ فأذن لهم في الدمع والحزن، ولم يؤاخذهم به، وخطم الفم بالزمام عن سوء الكلام، فنهى عما نهى، وأمر بالتسليم والرضا لنافذ القضاء، وخاصة عند الصدمة الأولى.

وأحسن الكلام في الشكوى سؤال المولى زوال البلوى، وذلك قول يعقوب: ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ) من جميل صنعه وغريب لطفه وعائدته على عباده " انتهى من "أحكام القرآن" (3 / 1104).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب