الحمد لله.
أولا:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ، وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ، فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ رواه مسلم (2018).
وهذا الحديث صريح في أن المسلم إذا دخل بيته من غير ذكر الله تعالى، دخل معه الشيطان، والظاهر أنه يدخل مع أتباع له، كما تشير جملة: قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ .
قال النووي رحمه الله تعالى:
" قوله: ( قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ ) معناه قال الشيطان لإخوانه وأعوانه ورفقته " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (13 / 190).
فإذا نسي العبد ذكر الله أثناء دخوله البيت، فلا نعلم في نصوص الشرع ما يدل على مشروعية الخروج والدخول مرة أخرى؛ بل يمكن للمسلم أن يستدرك ما فاته بأن يقول الأذكار والأدعية التي يترتب عليها الحفظ من الشيطان .
كما أن الحديث نص على عدم دخول الشيطان وليس فيه تعرض لخروج الشياطين التي كانت موجودة في البيت.
فالظاهر أن هذا الذكر هو من باب تقليل مفاسد الشيطان وليس قطعها نهائيا؛ ولذا يشرع ذكر الله عند العشاء حتى ولو ذكر عند الدخول.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى عن التسمية عد غلق الأبواب:
" يقتضي منعَ دخول الشياطين الخارجة عن البيت بعد إغلاق الباب، لا خروجَ الشيطان يكون بالبيت قبل إغلاقه، فيحتمل أن يكون هذا من باب الأمر بتقليل المفاسد لا رفعِها بالكلية، وتقليل المفاسد مطلوب؛ كما أن رفعَها مطلوب... " انتهى من "الإلمام" (2 / 579).
وقال ابن علان رحمه الله تعالى:
" في كتاب الأذان من "شرح مسلم" للأبي في حديث ( إذا سمع الشيطان النداء أدبر وله ضراط… ) . فيه : عوده عند أخذه في الصلاة بعد هروبه عند سماعه الأذان، كما قال: ( فإذا سكت عاد ) .
وقال في كتاب الأطعمة: ( إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء) ؛ فظاهره : أنه يذهب ولا يرجع.
والفرق: أن هروبه في الأذان لئلا يسمع موجِب هروبه، فإذا انقضى رجع، وذكر الله عند دخوله جعل مانعا له من الكون في البيت، فإذا ذهب فلا يرجع.
وأجاب غير الأبي: بأن المبيت في البيت أخص من مطلق الكون فيها، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فقد يرجع إلى الوسوسة ، ولا يبيت ؛ فيستوي الحديثان. انتهى.
ولك أن تقول مؤيدًا لما أجاب به ذلك الغير: نفس الخبر مصرح بأن الممنوع بالذكر عند الدخول: المبيت، إذ لو ذكر عند الدخول ، ولم يذكر عند الطعام : أكل معه ، وإن منع من المبيت، والمانع منهما الذكر عندهما ، على أنه غير مانع من الوصول لغير المبيت والأكل ، من وسوسة ونحو هذا والله أعلم " انتهى من "الفتوحات الربانية" (1 / 353).
فالحاصل؛ أنه لا يعلم ما يدل على مشروعية وفائدة الخروج والدخول مرة أخرى لمن نسي ذكر الله عند دخوله البيت ؛ بل النافع له أن يذكر الله على كل أحيانه ، ويرجى له أن يستدرك بذكره، من حفظ الله له ، وبركته عليه وعلى آل بيته، ما فاته بالنسيان .
ثانيا:
ظاهر الحديث أن الإنسان مأمور بذكر الله عند دخول البيت؛ فالظاهر أنه يذكر الله عند كل دخول، خاصة وأنه لا مشقة فيه، فهو ليس بالذكر الطويل الذي يشق تكراره، والإنسان يستحب له أن يلازم ذكر الله عند شروعه في أي عمل ذي قيمة كالدخول والخروج من البيت .
جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (8 / 92):
" اتفق أكثر الفقهاء على أن التسمية مشروعة لكل أمر ذي بال، عبادة أو غيرها " انتهى.
وإن نسي المسلم مرة أو مرات ذكر الله تعالى عند دخوله البيت، فقد جعل له الشرع من الأذكار ما يستدرك به هذا النسيان؛ ومن ذلك:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ رواه البخاري (3293)،ومسلم (2691).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ؛ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ الحَدِيثَ -، فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ، لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ "رواه البخاري (3275).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ رواه مسلم (780).
وسائر أذكار الصباح والمساء والنوم.
راجع للفائدة جواب السؤال رقم: (145543)، ورقم: (217496).
ثالثا:
إذا لم يذكر بعض أهل البيت اسم الله تعالى عند الأكل ، فإن كانوا يأكلون جماعة فذكر بعضهم يكفي كما نص على ذلك بعض أهل العلم.
قال النووي رحمه الله تعالى:
" وينبغي أن يسمي كل واحد من الآكلين، فإن سمى واحد منهم حصل أصل السنة، نص عليه الشافعي رضي الله عنه.
ويستدل له بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطان إنما يتمكن من الطعام إذا لم يذكر اسم الله تعالى عليه؛ ولأن المقصود يحصل بواحد " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (13 / 189).
وأما إن شرعوا في الأكل متعاقبين وليس في وقت واحد؛ فإن الشيطان يستحل الأكل معهم بوجود من لم يذكر الله تعالى.
عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: " كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعَ يَدَهُ، وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ مَرَّةً طَعَامًا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تُدْفَعُ، فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهَا، ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهَذَا الْأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّ يَدَهُ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا "رواه مسلم (2017).
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللهِ، فَإِنْ نَسِيَ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ .
وَبِهَذَا الإِسْنَادِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ طَعَامًا فِي سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إِنَّهُ لَوْ سَمَّى لَكَفَاكُمْ "رواه الترمذي (1858)، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".
قال ابن علان رحمه الله :
" ( فجاء) : أي بعد تركهم لذلك الطعام ، وانقطاع نسبة ذكرهم اسم الله عند تناوله عنه .
(أعرابيّ ، فأكله بلقمتين) الباء : بمعنى في .
(فقال رسول الله : أما إنه) ، أي الأعرابيّ ، أو ضمير الشأن .
(لو سمى لكفاكم) ، أي : معه ؛ بأن يبارك فيه ، فتأكلون ، ويأكل ، ويكفي الجميع . لكن بترك التسمية عليه : نزعت منه البركة ، حتى أكل في لقمتين " انتهى من "دليل الفالحين" (5/221) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" وإذا كان معه أناس وبدؤوا بالأكل جميعا، فهل تكفي تسمية الواحد، أو لا بد أن يسمي كل إنسان بنفسه؟
الجواب: إن جاؤوا مرتبين، بحيث يأتي الإنسان ولم يسمع تسمية الأول، فلا بد أن يسمي، كما جاء في الحديث في قصة الجارية، وأما إذا كانوا بدؤوا جميعا فالظاهر أن التسمية تكفي من واحد، لا سيما إذا نوى أنه سمى عن نفسه وعمن معه .
ومع ذلك ، فالذي أختار : أن يسمي كل إنسان بنفسه، وإن بدؤوا جميعا " انتهى من "الشرح الممتع" (12 / 359).
وإذا شارك الشيطان جماعة البيت في المبيت والأكل ، لوجود بعض من يقصّر في ذكر الله تعالى؛ فليس في هذا عقوبة لمن لا يستحق، بل يحتمل أن يقال : إن وبال ذلك على المفرط وحده ، وتسلط الشيطان إنما يكون على نصيبه هو، فلا يبارك له فيه .
ويحتمل أن يقال : إن ما نقص من نصيب غيره، أو ناله من أذى الشيطان ، إنما هو من باب ما يبتلي به الله عبده المؤمن، كما يقدر عليه أن بعض أهله يتلف شيئا من الطعام أو الآنية أو يعرضه للسرقة ونحو هذا؛ فهذا كله مما يبتلي الله به عبده المؤمن.
وهذا كله ، إذا لم يكن هناك من ذكر غيره لله ، وتحصنه به ، ما يمنع تسلط الشيطان على نصيب الجميع .
وعلى كل حال ؛ فعلى العبد أن يسلك السبيل الشرعي أمام هذا الابتلاء، وهو الاجتهاد بتذكير أهل البيت بأهمية ذكر الله تعالى ، وتجنب المعاصي، خاصة إذا كان هو القيم على أهل البيت ، والراعي لهم ، وعليه أن يستدرك هذا التفريط بأن يذكر الله بما يطرد الشيطان من البيت كما سبق ذكر بعض هذه الأذكار.
والله أعلم.
تعليق