الحمد لله.
المذاهب الأربعة كلها باب عظيم للتعلم والتفقه، وأئمتها مجتهدون موفقون، ثبت لهم ، جميعهم ، الإمامة في الدين ، بإجماع الأمة ، ولا ضير على الإنسان أن يقلد أي واحد منهم ، ما دام في مراحل الطلب ، ولا يمكنه النظر في الأدلة، كما هو حالك ، وحال الغالب الأعم من الناس.
والشافعي وأحمد رحمهما: متقاربان في الأصول، وكل واحد منهما له ما يمتاز به من العلم والفضل والإتقان، لغة، وفقها، وحديثا، وغير ذلك.
ولا نرى الخوض في هذه المفاضلة، ومعلوم أن كل أتباع مذهب يرونه أفضل المذاهب، وما من إمام إلا له مسائل يترجح فيها قوله على قول غيره من الأئمة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"فمن ترجح عنده تقليد الشافعي: لم ينكِر على من ترجح عنده تقليد مالك ، ومن ترجح عنده تقليد أحمد، لم ينكِر على من ترجح عنده تقليد الشافعي ، ونحو ذلك.
ولا أحد في الإسلام ، يجيب المسلمين كلهم بجواب عام: أن فلانا أفضل من فلان ، فيقبل منه هذا الجواب؛ لأنه من المعلوم أن كل طائفة ترجح متبوعها ، فلا تقبل جواب من يجيب بما يخالفها فيه، كما أن من يرجح قولا أو عملا ، لا يقبل قول من يفتي بخلاف ذلك.
لكن إن كان الرجل مقلدا : فليكن مقلدا لمن يترجح عنده أنه أولى بالحق.
فإن كان مجتهدا : اجتهد ، واتبع ما يترجح عنده أنه الحق ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وقد قال تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم .
لكن عليه أن لا يتبع هواه ، ولا يتكلم بغير علم. قال تعالى: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم، وقال تعالى يجادلونك في الحق بعدما تبين.
وما من إمام إلا له مسائل يترجح فيها قوله على قول غيره.
ولا يَعرِف هذا التفاضل إلا من خاض في تفاصيل العلم . والله أعلم" انتهى من "مجموع الفتاوى" (20/ 292).
وقال الدكتور عبدالله بن عبد المحسن التُّركي في التعليق على "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل" هامش صفحة 109: " لا داعي للمفاضلة بين الأئمة رحمهم الله؛ وكلهم أصحاب فضلٍ وعلم، وقد بذلوا جهدهم في الوصول إلى الحق، وهم مجتهدون كغيرهم من مجتهدي الأمة؛ إن أصابوا الحق فلهم أجران، وإن أخطؤوه فلهم أجرٌ جزاء اجتهادهم.
وكان رائدهم في خلافهم وآرائهم : الحق، واتِّباع الدليل؛ وقد ثبت عن كُلٍّ منهم قوله: "إذا خالف قولي قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فالحُجَّة في قول رسول الله، واضربوا بقولي عرض الحائط".
ولم يكن منهم تعصُّبٌ ولا نزاعٌ ولا تعالٍ، بل كان التَّواضع والاحترام والحب؛ فجزاهم الله عن المسلمين خيراً.
وإن حصلت ميزات لبعضهم على بعض؛ فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو أمر لا يستدعي التَّعصُّب والانتصار لإمامٍ على آخر.
وترتيبهم في المفاضلة ليس ديناً يجب على الأمَّة معرفته والالتزام به، بل الذي يجب على الأمة معرفة ما كانوا عليه من فضلٍ وعلمٍ، والأدلَّة التي استندوا إليها في آرائهم، والقول الحقُّ الذي هو حكم الله وشرعه في حقِّ الناس للعمل به وتطبيقه.
وما يُثار من بعض أتباع الأئمة من تعصُّبٍّ، ونزاعٍ، ومفاضلةٍ بينهم، وتقليدٍ أعمى قد يؤدِّي إلى ترك الحقِّ الموافق لما جاء عن الله؛ لأن إمامه لم يقلْه : أمرٌ يجب الحذر منه، والابتعاد عنه، فلم يكن في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-، ولا سلف الأمة الصَّالح، وأئمتها المعتبرين؛ فيجب التَّنبُّه لذلك؛ والاقتداء بالسلف الصَّالح الذين اقتدوا برسولنا صلى الله عليه وسلَّم" انتهى.
والذي ننصح به أن يختار الإنسان المذهب الذي ينتشر في بلده، ويجد له من الشيوخ ما يمكنه ضبط المذهب وتلقيه عنهم.
فإذا كنت تدرس المذهب الشافعي من المرحلة المتوسطة إلى الجامعية ، فخير لك أن تستمر في هذا المذهب الذي وقفت على كثير من فروعه وأصوله ولغته ومصطلحاته؛ وأن تكمل دراسته ، وأن تضبط شيئا من متونه المعتبرة عند أهله، ثم تطالع في تصانيفه، ما يسر الله لك من ذلك.
والله أعلم.
تعليق