الحمد لله.
أولا: لم يثبت في خبر صحيح أن هذه المرأة رجمت
هذه القصة بهذا السياق ـ وهو أن عثمان ـ رضي الله عنها ـ رجم المرأة ـ لم ترد عن عثمان بإسناد صحيح، بل ورد ما يدل على أنه هم برجمها، لكنه لم يفعل بعد مشاورته لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وورد نحو ذلك عن عمر ـ رضي الله عنه ـ
ولم يثبت في خبر واحد صحيح أن هذه المرأة، وشبهها : قد رجمت لا في عهد عمر بن الخطاب، ولا في عهد عثمان بن عفان ـ رضي الله عنهما ـ ويتضح ذلك من خلال استعراض الروايات الواردة في هذا الأمر وبيان درجتها:
فأما ما ورد أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ أمر برجم المرأة وأنها رجمت، فقد انفرد بروايته الإمام مالك ـ رحمه الله ـ في موطئه ( 2/ 825) ، لكنه رواه بلاغاً دون إسناد:
فعن مالك أنه بلغه أن عثمان بن عفان أتي بامرأة ، قد ولدت في ستة أشهر ؛ فأمر بها أن ترجم.
فقال له علي بن أبي طالب : ليس ذلك عليها ؛ إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [الأحقاف: 15] ، وقال والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة [البقرة: 233] ؛ فالحمل يكون ستة أشهر فلا رجم عليها ".
فبعث عثمان بن عفان في أثرها ، فوجدها قد رجمت".
فهذا الطريق ضعيف باتفاق أهل العلم إذ لم يوقف عليه موصولا من طريق آخر بهذا السياق، إلا من طريق ابن إسحاق، كما في "تفسير ابن كثير" (6/ 281)، وابن إسحاق مشهور بالتدليس وقد عنعن، فحديثه لا يصح.
بل ورد عن عثمان من طريق قوي ولم يرد فيه الرجم، بل ورد التصريح بأنه لم يرجمها ، فقد ذكر ابن عبد البر في "الاستذكار" ( 24/ 74 ومابعدها) ما رواه عبد الرزاق في مصنفه (13445) عن معمر عن الزهري عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ قال: "رفعت إلى عثمان –رضي الله عنه- امرأة ولدت لستة أشهر، فقال: إنها رُفعت إلي امرأة لا أراها إلا جاءت بشر، ولدت لستة أشهر، فقال له ابن عباس –رضي الله عنهما-: إذا أتمت الرضاع كان الحمل ستة أشهر، قال: وتلا ابن عباس "وحمله وفصاله ثلاثون شهراً" ، فإذا أتمت الرضاع كان الحمل ستة أشهر" .
ثم قال ابن عبد البر:" وهذا الإسناد لا مدفع فيه من رواية أهل المدينة" انتهى.
ويزيده قوة ما ذكره ابن الملقن في "البدر المنير" (8/ 132) قال: " ورواه ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو عبيد مولى عبد الرحمن بن أزهر: (أن عثمان بن عفان خرج يوما فصلى الصلاة، ثم جلس على المنبر، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد: فإن هاهنا امرأة ، إِخَالها قد جاءت بشيء، ولدت في ستة أشهر، فما ترون فيها؟ .
فناداه ابن عباس فقال: إن الله قال: (ووصينا الإنسان (إلى قوله: (ثلاثون شهرا) ، وقال: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين» ) الآية، فأقل الحمل ستة أشهر، فتركها عثمان، ولم يرجمها" .
إسنادها صحيح" ، وصححه أيضاً الحافظ في "التلخيص الحبير"( 3/ 219)، فهنا صريح بعدم وقوع الرجم.
ويزيده قوة ما رواه عبد الرزاق في مصنفه (13447)، وسعيد بن منصور في سننه (2075) نا أبو معاوية، نا الأعمش، عن مسلم بن صبيح، عن قائد ابن عباس، قال: " أتي عثمان في امرأة ولدت في ستة أشهر فأمر برجمها، فقال ابن عباس: أدنوني منه ، فأدنوه، فقال: إنها تخاصمك بكتاب الله ، يقول الله عز وجل: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [البقرة: 233] ، ويقول في آية أخرى: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [الأحقاف: 15] ؛ فردها عثمان ، وخلَّى سبيلها ".
وهذا إسناد فيه ضعف يسير لجهالة قائد ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ لكنه يتقوى بما قبله من الآثار الصحيحة.
وبناء على ما تقدم :
فيكون أصل الرواية صحيحاً ، من دون الزيادة المذكورة وهي (وقوع الحد على تلك المرأة).
وقد ورد نحو ذلك عن عمر رضي الله عنه، ويميل عدد من العلماء إلى تكرر الحادثة ، وأنها وقعت في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما، وأنهما لم يوقعا الرجم بالمرأة.
قال ابن عبد البر ـرحمه الله ـ: " وقد صحح عكرمة القصتين لعمر، وعثمان أيضا، ذكره عبد الرزاق، عن الثوري، عن عاصم، عن عكرمة، وذكره غير واحد عن الزهري، بإسناده عن عكرمة، أن عمر أتي بمثل التي أتي بها عثمان، فقال فيها علي ـ رضي الله عنه ـ نحو مما قال ابن عباس" انتهى من"الاستذكار" (24/ 76).
ثانيا: الحكم الشرعي في المرأة إذا ولدت بعد مضي ستة أشهر
وأما الحكم الشرعي ، فقد نقل ابن عبد البر اتفاق العلماء على ما فعله عمر وعثمان رضي الله عنهما ، فقال:" قال أبو عمر: لا أعلم خلافا بين أهل العلم، فيما قاله علي، وابن عباس، في هذا الباب، في أقل الحمل، وهو أصل ، وإجماع.
وفي الخبر بذلك : فضيلة كبيرة، وشهادة عادلة لعلي، وابن عباس، في موضعهما من الفقه في دين الله - عز وجل - والمعرفة بكتاب الله عز وجل." انتهى من الموضع السابق.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى عن رجل تزوج بنتا بكرا بالغا ودخل بها؛ فوجدها بكرا ، ثم إنها ولدت ولدا بعد مضي ستة أشهر بعد دخوله بها : فهل يلحق به الولد أم لا ؟ فأجاب - رضي الله عنه - :
" الحمد لله ، إذا ولدت لأكثر من ستة أشهر من حين دخل بها ، ولو بلحظة : لحقه الولد باتفاق الأئمة .
ومثل هذه القصة وقعت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه . واستدل الصحابة على إمكان كون الولد لستة أشهر بقوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا مع قوله : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ؛ فإذا كان مدة الرضاع من الثلاثين حولين يكون الحمل ستة أشهر ؛ فجمع في الآية أقل الحمل وتمام الرضاع . والله أعلم". انتهى من "مجموع الفتاوى" (34/ 10).
والله أعلم.
تعليق