الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

حول صحة حديث :" من صلى الصبح كان في ذمة الله حتى يمسي " ، وتقييد الحفظ بالمساء

301834

تاريخ النشر : 23-12-2019

المشاهدات : 41516

السؤال

ما صحة حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( مَن صلى الغَدَاةَ كان في ذِمَّةِ اللهِ ، حتى يُمْسِيَ ) صححه العلامة الألباني عليه رحمة الله، حيث إن الأحاديث الأخرى لم تحدد (حتى يمسي) إلا هذا الحديث؟ وهل إذا كان هذا حديث صحيح يفهم منه أنه ليس في ذمة الله حتى المساء؟

ملخص الجواب

ذمة الله التي جعلها لمن صلى الصبح في جماعة : هي حفظه، وجوار من الله سبحانه لعبده. وفي ذلك تأكيد شديد على حرمة المؤمن الذي صلى الله الصبح، في وقتها . وتحذير من التعرض له بشيء، وإلا ، فلينتظر من انتهك حرمة الله وجواره، ما يكون له عند الله من الوعيد، وليحذر على نفسه : أن يكبه الله على وجهه في جهنم. ومن صلى الصبح لله، احتاج أن يحافظ على ذمة الله وجواره، ولا ينقض ذلك العهد مع الله بجريمة تخرجه من ذلك الجوار، وأن يجدد ذلك العهد والذِّمام؛ فكلما أتى عليه الصبح، صلاه !!

الجواب

الحمد لله.

أولا:

روى الإمام مسلم في "صحيحه" (657) ، من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه ، قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ ، فَلَا يَطْلُبَنَّكُمُ اللهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ فَيُدْرِكَهُ فَيَكُبَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ  .

ومعنى الحديث أن من صلى صلاة الصبح: كان في أمان الله ، وحفظه وضمانه وجواره ، فمن تعرض لمن كان في جوار الله وضمانه ؛ أدخله الله النار .

قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (2/630) :" قوله: " من صلى الصُّبْحَ فهو في ذمة الله ": الذمة: الضمان ، وقيل: الأمان ". انتهى.

وهذه الذمة المذكورة في الحديث: هي ذمة شرعية، أي أن الله تعالى شرع لعباده، وأمرهم أن يحفظوا له حقه، وذمته ، وجواره؛ فإياكم وأن تعصوا ربكم ، وأن تنتهكوا حرمة من صلى الصبح لربه ، وتُخْفِروا جوار الله .

قال القرطبي في "المفهم" (2/282) :" قوله : ( من صلّى الصبح فهو في ذمّة الله ) ؛ أي : في أمان الله ، وفي جواره ؛ أي : قد استجار بالله تعالى ، والله تعالى قد أجاره ، فلا ينبغي لأحد أن يتعرض له بضر أو أذى ، فمن فعل ذلك فالله تعالى يطلبه بحقه ، ومن يطلبه لم يجد مفرًّا ولا ملجأ . وهذا وعيد شديد لمن يتعرض للمصلين ، وترغيب حضور صلاة الصبح . و" يكبه في النار" : يقلبه فيها على وجهه  ". انتهى.

وقال الإمام أبو بكر ابن العربي رحمه الله:

"ومعنى كونه في ذمة الله : المراعاةُ لما قدم من طاعته، ففي رواية أبي عيسى: ( فلا يتبعنكم الله بشيء من ذمته ) ، وفي رواية أخرى: ( فلا تُخْفِروا الله في ذمته ) .

وهذه إشارة إلى أن الحفظ سينحل بقصد المؤذي إليه، ولكن الباري سيأخذ حقه منه في إخفار ذمته التي أعلن بها .

وهذا إخبار عن إيقاع الجزاء ، لا عن وقوع الحفظ عن الإخفار والإذاية ؛ فلأجل هذا وقع الإخفار.

وأفاد الحديث التهديد والوعيد والتحذير عن أن يقع أحد في ذلك، ثم يكون الإقدام والإحجام بحسب القضاء والقدر" انتهى، من "عارضة الأحوذي" (9/8) .

ثانيا:

هذا الحديث قد رُوي عن جمع من الصحابة ، منهم أبو بكر وأنس وأبو هريرة وابن عمر ، وجميعها جاءت مطلقة ، كما في هذه الرواية ، هكذا بإطلاق الحفظ والضمان دون تقييده بالمساء .

إلا أن بعض الروايات جاءت من بعض الطرق ، عن ابن عمر وأبي هريرة بالتقييد إلى المساء ، ولو صحت هذه الطرق ، فينبغي حمل المطلق على المقيد لاتحاد السبب والحكم ، كما هو قول الجمهور، وعده البعض إجماعا ، كما في "أصول الفقه" ، لابن مفلح (3/987).

إلا أن الطرق التي جاءت مقيدة بالمساء أسانيدها ضعيفة لا تثبت. وبيانها كما يلي :

الرواية عن ابن عمر رضي الله عنهما :

روي الحديث عن ابن عمر من طريقين :

الأول : موافق لرواية الجماعة ، على إطلاق لفظه.

وهو ما أخرجه أحمد في "المسند" (5898) ، والبزار في "مسنده" (5988) ، من طريق ابن لهيعة ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  مَنْ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ فَلَهُ ذِمَّةُ اللهِ ، فَلَا تُخْفِرُوا اللهَ ذِمَّتَهُ ، فَإِنَّهُ مَنْ أَخْفَرَ ذِمَّتَهُ طَلَبَهُ اللهُ حَتَّى يُكِبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ  .

وإسناده ضعيف ، لأجل ابن لهيعة ، فإنه ضعيف الحديث ، إلا حديث من روى عنه قديما ، وقد رواه عنه عبد الله بن يوسف ، وموسى بن داود ، وليسا من قدماء أصحابه .

الثاني : جاءت عن ابن عمر بالتقييد ، وقد رويت عنه من عدة طرق ، وكلها لا تثبت .

الطريق الأول :

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (12/312) ، من طريق يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ ، ثنا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ ، ثنا أَبِي أَنَّ الْحَجَّاجَ أَمَرَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بِقَتْلِ رَجُلٍ فَقَالُ لَهُ سَالِمٌ: أَصَلَّيْتَ الصُّبْحَ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: نَعَمْ ، فَقَالَ: انْطَلِقْ فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: مَا مَنَعَكَ مِنْ قَتْلِهِ؟ فَقَالَ سَالِمٌ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ كَانَ فِي جِوَارِ اللهِ يَوْمَهُ  ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَقْتُلَ رَجُلًا قَدْ أَجَارَهُ اللهُ . فَقَالَ الْحَجَّاجُ لِابْنِ عُمَرَ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: نَعَمْ ".

وهذا الطريق تالف ، فيه يحيى بن عبد الحميد الحماني ، قال فيه أحمد بن حنبل : كان يكذب جهارا ،  وقال أيضا : ما زلنا نعرفه أنه يسرق الأحاديث ، أو يتلقطها أو يتلقفها . كذا في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/169)

الطريق الثاني :

أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (3464) ، من طريق عطاء بن مسلم الخفاف ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: " كَانَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَاعِدًا عِنْدَ الْحَجَّاجِ ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: قُمْ فَاضْرِبْ عُنُقَ هَذَا ، فَأَخَذَ سَالِمٌ السَّيْفَ وَأَخَذَ الرَّجُلَ وَتَوَجَّهَ بَابَ الْقَصْرِ ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ أَبُوهُ وَهُوَ يَتَوَجَّهُ بِالرَّجُلِ ، فَقَالَ: أَتُرَاهُ فَاعِلًا ـ فَرَدَّهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَا ، فَلَمَّا خَرَجَ بِهِ قَالَ لَهُ سَالِمٌ: صَلَّيْتَ الْغَدَاةَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَخُذْ أَيَّ الطَّرِيقِ شِئْتَ ، ثُمَّ جَاءَ فَطَرَحَ السَّيْفَ ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: أَضَرَبْتَ عُنُقَهُ؟ قَالَ: لَا . قَالَ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبِي هَذَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :  مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ حَتَّى يُمْسِيَ  فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: مُكَيَّسٌ ، إِنَّمَا سَمَّيْنَاكَ سَالِمًا لِتَسْلَمَ ".

وهذا الطريق ضعيف ، فيه علتان :

الأولى : تدليس الأعمش ، فإنه مشهور بالتدليس ، وذكر الحديث على سبيل الحكاية ، ولم يسنده عن سالم .

الثانية : عطاء بن مسلم الخفاف ، فإنه قال فيه ابن معين : ليس به بأس وأحاديثه منكرات ، وقال أبو حاتم كان شيخا صالحا يشبه يوسف بن أسباط ، وكان دفن كتبه فلا يثبت حديثه ، وليس بقوي ، وقال أبو عبيد الآجري عن أبي داود : ضعيف . انتهى من "تهذيب الكمال" (20/105) .

الطريق الثالث :

أخرجه مسدد في "مسنده" كما في "المطالب العالية" لابن حجر (1836) ، من طريق أيوب بن سويد ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري ، قال :" لما نزل الحجاج بابن الزبير أخذ رجلا فدفعه إلى سالم بن عبد الله بن عمر ليقتله ، فقال له سالم : أمسلم أنت ؟ قال : نعم . قال : صليت الصبح ؟ قال : نعم . قال : انطلق لا سبيل لي عليك . فبلغ الحجاج ، فقال له : ما فعل الرجل ؟ قال : سألته : أمسلم أنت ؟ قال : نعم ، وسألته : أصليت الصبح ؟ قال : نعم ، وأخبرني أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه :  من صلى الصبح كان في جوار الله حتى يصبح أو يمسي   قال : فإنه من قتلة عثمان ، قال : فما أنا بولي عثمان فأقتل قتلته " .
فبلغ أباه عبد الله بن عمر ، فخرج مسرعا يجر إزاره ، فلقيه بما صنع ، فقال : سميتك سالما لتسلم ، سميتك سالما لتسلم ".

وإسناده ضعيف جدا ، فيه أيوب بن سويد ، قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (1/287) :" ضعفه أحمد وغيره . وقال النسائي: ليس بثقة . وقال ابن معين: ليس بشيء . وقال ابن المبارك: ارم به . وقال البخاري: يتكلمون فيه ". انتهى ، وهذا الطريق ضعفه البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (8/43) .

الطريق الرابع :

أخرجه ابن العديم في "بغية الطلب في تاريخ حلب" (9/4127) ، من طريق نصر بن حريش الصامت قال: حدثنا أبو سهل مسلم الخراساني ، عن سفيان الثوري ، عن مجالد ، عن عامر الشعبي أنه قال:" كان عبد الله بن عمر وابنه سالم بن عبد الله جلوسا عند الحجاج إذ جاؤوا برجل يريد أن يقتله الحجاج ، فقال لسالم: قم الى هذا الرجل فاقتله ، قال: فقام سالم فسل سيفه ، ودنا منه ، وابن عمر ينظر اليه ويقول: أتراه فاعلا ، فلما دنا منه قال له: يا هذا صليت اليوم الغداة؟ قال: نعم قد صليت الغداة ، فغمد سيفه ، ثم رجع الى الحجاج فقال له الحجاج: ما لك لم تقتله؟ قال: سمعت أبي هذا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:  من صلى الغداة فهو في ذمة الله حتى يمسي ، فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته  قال: فسكت الحجاج ولم يرد عليه شيئا ".

وإسناده ضعيف ، فيه نصر بن حريش ، وأبو سهل مسلم الخراساني ، ضعفهما الدارقطني كما في "تاريخ بغداد" (15/386)

ثم إن هذه القصة رويت من طريق آخر - وإن كان ضعيفا أيضا – إلا أنه أمثل من هذه الطرق.

أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (5/196) ، من طريق همام بن يحيى ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ:" دَفَعَ الْحَجَّاجُ إِلَى سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ سَيْفًا، وَأَمَرَهُ بِقَتْلِ رَجُلٍ، فَقَالَ سَالِمٌ لِلرَّجُلِ: أَمُسْلِمٌ أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمُ، امْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ، قَالَ: فَصَلَّيْتَ الْيَوْمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَرَمَى إِلَيْهِ بِالسَّيْفِ وَقَالَ: إِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَأَنَّهُ قَدْ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ الْيَوْمَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم قَالَ:  مَنْ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ ؛ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ   ، قَالَ الْحَجَّاجُ: لَسْنَا نَقْتُلُهُ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ ؛ وَلَكِنَّهُ مِمَّنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ، فَقَالَ سَالِمٌ: هَاهُنَا مَنْ هُوَ أَوْلَى بِعُثْمَانَ مِنِّي، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ: مَا صَنَعَ سَالِمٌ؟ قَالُوا: صَنَعَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مُكَيَّسٌ مُكَيَّسٌ " .

وفي إسناده عطاء بن السائب ، وهو ثقة ، إلا أنه اختلط ، وحديث البصريين عنه بعد اختلاطه ، وهمام بن يحيى من البصريين .

قال أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل" (6/334) :" كان عطاء بن السائب محله الصدق قديما قبل أن يختلط ، صالح مستقيم الحديث ، ثم بأخرة تغير حفظه ، في حديثه تخاليط كثيرة ، وقديم السماع من عطاء سفيان وشعبة ، وحديث البصريين الذين يحدثون عنه تخاليط كثيرة لانه قدم عليهم في آخر عمره ". انتهى

الرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه :

أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في "طبقات المحدثين بأصبهان" (2/106) من طريق أبي بَكْرٍ الطَّرَسُوسِيُّ مُحَمَّد بْن عِيسَى ، عَنْ عِيسَى بْنِ مِينَا ، قَالَونَ ، قال: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، عَنْ سُمَيٍّ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ ، فَلا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي جِوَارِهِ حَتَّى يُمْسِيَ ، وَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ حَتَّى يُصْبِحَ ، فَلا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ  .

وإسناده تالف ، فيه محمد بن عيسى الطرسوسي ، قال فيه ابن عدي في "الكامل" (7/540) :" عامة ما يرويه لا يتابعونه عليه، وَهو فِي عداد من يسرق الحديث " انتهى.

فتبين مما سبق أن الروايات التي ورد فيها تقييد الحفظ من الله إلى المساء : ضعيفة لا تثبت . والشيخ الألباني رحمه الله لم يصحح الحديث لذاته ، وإنما صححه لغيره في "صحيح الترغيب والترهيب" (462) ، أي باعتبار رواية مسلم ، وغيرها ، ولم يتكلم على أفراد أسانيد الروايات المقيدة .

ثالثا:

الذمة الواردة في هذا الحديث : أن الله جعلها لمن صلى الصبح، ليس من الظاهر المتبادر من الحديث : أن تكون له أبدا ، على وجه الدوام ، لأجل أنه صلى الصبح في يوم ؛ فإن صلاة الصبح تتكرر في كل يوم ؛ فمن صلى الصبح فهو في ذمة الله ، يومه ذلك الذي صلى لله فيه ؛ فإن جاءه اليوم التالي، فصلى الصبح، فقد تجددت له الذمة والجوار. وأما من تركه الصبح في يومه الآخر، فأي ذمة أبقاها لنفسه، وأي جوار لله قد حفظه ، وقد عصاه ، وترك ما يدخل به في جوار الله وذمته ؟!

وهذا المعنى الذي قررناه هنا، هو الذي تدل عليه الروايات المقيدة بـ ( يومه ) أو ( حتى يُمسي).

فإذا صححنا الرواية بالتقييد ، لأجل تعدد طرقها ، فالأمر واضح .

وإذا لم يثبت ذلك من حيث الرواية ، فالمعنى يقتضيه، كما ذكرناه . وهو الأمر الذي قرره شراح الحديث ، ومن تكلم عليه من أهل العلم .

قال ابن رجب رحمه الله :

" وصلاة الصبح من صلاها فهو في ذمة الله ، كما في حديث جندب ابن سفيان ، عن النبي قال: ( من صلى الصبح فهو في ذمة الله ، فلا تخفروا الله في ذمته ) . خرجه مسلم .

وفي رواية له - أيضا - زيادة : ( فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم ) .

وقد روي مثله في صلاة العصر - أيضا .خرجه نعيم بن حماد في ( كتاب الفتن ) عن عبد العزيز الدراوردي ، عن زيد ابن أسلم ، عمن حدثه ، أن رسول الله ( قال : ( من صلى الصبح كان في جوار الله حتى يمسي ، ومن صلى العصر كان في جوار الله حتى يصبح ، فلا تخفروا الله في جواره ؟ فإنه من أخفر الله في جواره طلبه الله ، ثم أدركه ، ثم كبه على منخره ) - أي : في جهنم." انتهى، من "فتح الباري"، لابن رجب (3/217).

قال الملا علي القاري، رحمه الله:

" (مَنْ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ) : أَيْ: بِإِخْلَاصٍ (فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ) : أَيْ: فِي عَهْدِهِ وَأَمَانِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا غَيْرُ الْأَمَانِ الَّذِي ثَبَتَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ (فَلَا يَطْلُبَنَّكُمُ اللَّهُ) : أَيْ: لَا يُؤَاخِذُكُمْ مِنْ بَابِ لَا أَرَيَنَّكَ، الْمُرَادُ نَهْيُهُمْ عَنِ التَّعَرُّضِ لِمَا يُوجِبُ مُطَالَبَةَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ (مِنْ ذِمَّتِهِ) : مِنْ: بِمَعْنَى لِأَجَلِ، وَالضَّمِيرُ فِي ذِمَّتِهِ إِمَّا لِلَّهِ، وَإِمَّا لِمَنْ، وَالْمُضَافُ مَحْذُوفٌ أَيْ: لِأَجْلِ تَرْكِ ذِمَّتِهِ (بِشَيْءٍ) : أَيْ: يَسِيرٍ أَوْ بَيَانِيَّةٌ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالٌ مِنْ شَيْءٍ .

وَفِي الْمَصَابِيحِ: بِشَيْءٍ مِنْ ذِمَّتِهِ قِيلَ: أَيْ يُنْقَضُ عَدُّهُ وَإِخْفَارُ ذِمَّتِهِ بِالتَّعَرُّضِ لِمَنْ لَهُ ذِمَّةٌ.

أَوِ الْمُرَادُ بِالذِّمَّةِ : الصَّلَاةُ الْمُوجِبَةُ لِلْأَمَانِ ؛ أَيْ: لَا تَتْرُكُوا صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَيَنْتَقِضُ بِهِ الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ فَيَطْلُبُكُمْ بِهِ " انتهى، من "مرقاة المفاتيح" (2/541).

وقال الصنعاني، رحمه الله:

" (حتى يمسي): بيان غاية هذا الحفظ الخاص وأنه إلى آخر يومه " انتهى، من التنوير شرح الجامع الصغير(10/284).

والحاصل:

أن ذمة الله التي جعلها لمن صلى الصبح في جماعة : هي حفظه، وجوار من الله سبحانه لعبده. وفي ذلك تأكيد شديد على حرمة المؤمن الذي صلى الله الصبح، في وقتها . وتحذير من التعرض له بشيء، وإلا ، فلينتظر من انتهك حرمة الله وجواره، ما يكون له عند الله من الوعيد، وليحذر على نفسه : أن يكبه الله على وجهه في جهنم.

ومن صلى الصبح لله، احتاج أن يحافظ على ذمة الله وجواره، ولا ينقض ذلك العهد مع الله بجريمة تخرجه من ذلك الجوار، وأن يجدد ذلك العهد والذِّمام؛ فكلما أتى عليه الصبح، صلاه !!

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب