الجمعة 10 شوّال 1445 - 19 ابريل 2024
العربية

ديار ثمود، ومدائن صالح

305435

تاريخ النشر : 19-01-2020

المشاهدات : 35101

السؤال

أخي عندي إشكالية بخصوص انتماء مدائن صالح هل هي للثموديين أم للأنباط؟ لأن الآثار تشير أنها مقابر للأنباط ، فهل استعمروها بعد الثموديين ؟ أساسا هل هي نفسها المباني المذكورة في القرآن الكريم ؛ لأن القرآن ذكر بأنها بيوت وليست مقابر في قوله تعالى: ( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِين)الأعراف/74 ؟

الجواب

الحمد لله.

أولًا :

اختلف أهل التاريخ في موقع ديار ثمود ، وعلى أية حال فإن " كثرة من الباحثين المحدثين حددوها ببلدة الخريبة التي تبعد عن مدائن صالح بنحو عشرة أميال وقد أصاب آثارها هي الأخرى خراب كبير، وبنوا رأيهم على غلبة النصوص الثمودية التي عثر عليها فيها .

بينما رجحوا اعتبار مدائن صالح من مناطق الأنباط على أساس غلبة الآثار والنصوص النبطية فيها وإن تضمنت إلى جانبها نصوصًا ثمودية قليلة "، انتهى من "تاريخ شبه الجزيرة العربية في عصورها القديمة " عبدالعزيز صالح: (140).

ويقول الدكتور "جواد علي" في " المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام " (1/ 323):

" لم يعيّن القرآن الكريم موضع منازل "ثمود"، وإنما يظهر من آية: ( وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ )، أن مواضعهم كانت في مناطق جبلية، أو في هضبات ذات صخور.

وقد ذكر المفسرون أن معنى "جابوا الصخر" قطعوا صخر الجبال، واتخذوا فيها بيوتا، وأن "الواد" هو وادي القرى ، فتكون مواضع ثمود في هذه الأماكن.

وقد عين أكثر الرواة "الحجر" على أنه ديار ثمود، وهو قرية بوادي القرى.

وقد زارها بعض الجغرافيين وعلماء البلدان والسيّاح، وذكروا أن بها بئرا تسمى بئر "ثمود"، وقد نزل بها الرسول مع أصحابه في غزوة "تبوك".

وقد ذكر المسعودي أن منازلهم كانت بين الشام والحجاز، إلى ساحل البحر الحبشي، وديارهم بفج الناقة، وأن بيوتهم منحوتة في الجبال، وأن رممهم كانت في أيامه باقية، وآثارهم بادية، وذلك في طريق الحاج لمن ورد الشام بالقرب من وادي القرى " . قال: " ويرى "دوتي" أن "الحجر" التي سكن بها قوم ثمود، هي موضع "الخريبة" في الزمن الحاضر، لا "مدائن صالح" التي هي في نظره "حجر" النبط. وتقع "مدائن صالح"، وهي عاصمة النبط، على مسافة عشرة أميال من موضع "الخريبة" "، انتهى .

ويقول الأستاذ الدكتور بيومي مهران: " وتقع على مبعدة 15 كيلو مترا إلى الشمال من مدينة العلا الحالية، على الطريق التجاري العظيم الذي يربط جنوب بلاد العرب بسورية، وتتكون من عدة جبال رملية متناثرة، ومن ثم فقد سهل على سكانها أن ينحتوا فيها مقابر لهم، انتشرت في معظم هذه الجبال.

هذا وقد جاء ذكر المدينة في جغرافية بطليموس، كما ذكرها "إصطيفانوس البيزنطي"، والحجر -فيما يرى البعض- هي "أجزاء Eera" التي ذكرها "سترابو" في حديثه عن حملة "إليوس جالليوس" على اليمن في عام 24ق. م، وربما كان لها ميناء يعرف بـ "فرضة الحجر"، ومن الممكن، بل من المحتمل أن تكون هذه الفرصة معروفة بنفس الاسم الذي عرفت به الحجر -كما أن ميناء مدين كانت تعرف كذلك باسم مدين- وأن ميناء الحجر هذه ربما كانت هي بعينها الميناء التي تعرف اليوم باسم "الوجه".

وتشير الكتابات التي وجدت في مدائن صالح إلى المدينة ربما كان قد أنشأها المعينيون، كما تشير مقابرها التي جمعت في نحتها عناصر فنية مختلفة -فرعونية وإغريقية ورومانية وعربية- إلى أنها تشبه إلى حد كبير ما هو موجود في البتراء، ولعل هذا سببه أنهما ذات حضارة واحدة، وإن كانت مقابر مدائن صالح إنما تتميز بوجود شواهد عليها، مكتوبة بالخط الآرامي النبطي، كما أن هناك في جبل أثلت معبدا يذكرنا بمعابد البتراء، فضلا عن معبد آخر صغير يقع على مبعدة 150م إلى الجنوب من الجبل الآنف الذكر، وأخيرًا فلعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هناك من يرى في الموقع النبطي "إرم" اكتشفت على مبعدة 25 ميلا إلى الشرق من العقبة، "إرم" المذكورة في القرآن الكريم.

ويشير "بليني" في "التاريخ الطبيعي "6: 156" أن عاصمة اللحيانيين هي "هجرا Hagra"، وأن مركزهم الرئيسي هو واحة ديدان- على مبعدة 15 كيلو مترا إلى الجنوب من الحجر- وأن اللحيانيين إنما كانوا يسكنون بكل تأكيد في واحة الحجر، كما كانوا يسكنون كذلك في ديدان، ومن هذا يمكن أن نستنتج أن "هجرا" عاصمة اللحيانيين، هي بعينها الحجر.

وأما المصادر العربية فتذهب إلى أن الحجر، إنما هي ديار ثمود، ناحية الشام عند وادي القرى، وهم قوم سيدنا صالح عليه السلام، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم، وفي الحديث الشريف.

وعلى أي حال، فإن المدينة قد أخذت مكانها بالتدريج، حتى إذا ما كان القرن العاشر الميلادي أصبحت خرائب لا يسكنها أحد، هذا وقد عثر في هذه الخرائب -التي تقع بين جبل أثلت وقصر البنت وسكة حديد الحجاز القديمة- على آثار حصن قديم، وبقايا أبراج وأعمدة ومزولة شمسية، فضلا عن نقود ترجع إلى أيام الحارث الرابع النبطي "9ق. م - 40م" ، انتهى من " دراسات في تاريخ العرب القديم "، (438 - 439).

فالحاصل: أنها مسألة خلافية ، ولم يعينها القرآن شيئا فيها ، فلا نقطع بشيء فيها .

ثانيًا :

القرآن لم يكن كتاب تاريخ جاء لتحديد الحوادث ، وبيان أوقاتها ، وأماكن وقوعها بالتفصيل ، وإنما هو كتاب عبرة ببيان سنن الله - تعالى - في البشر ، وهداية الرسل عليهم السلام .

فالمقصود أخذ العبرة من الآيات ، يقول الشيخ " محمد العدوي " في كتابه "دعوة الرسل" (93):

" أخذ نبي الله يُذكِّرهم بنعم الله عليهم، وأنَّه جعلهم خلفاء لعاد في الحضارة والعمران، والقوة والبأس، وأنَّه بوّأهم في الأرض، وجعلها منازل لهم، وقد بين ذلك بقوله: تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتًا ؛ يذكرهم بما ألهمهم من فنون الصناعة، وهندسة البناء، ودقة النجارة، وما علمهم من فن النحت، وآتاهم من القوّة والصبر.

قيل: كانوا يسكنون الجبال في الشتاء، لما في البيوت المنحوتة من القوة على الأمطار والعواصف، ويسكنون السهول في سائر الفصول لأجل الزراعة والعمل.

انظر كيف يُذكِّر القرآن قوم هود بأنَّه جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح، ويذكر قوم صالح بأنَّه جعلهم خلفاء من بعد عاد، وذلك أسلوب من أساليب التربية، وضرب من ضروب العِظَة، يُذكِّر فيها القرآن أولئك القوم بأنَّه غمرهم بفضله، وعمَّهم بإحسانه، وجعلهم أجلاء عظماء في شؤون الحياة، ووسائل العمران، ولا ينبغي ممن كرّمهم الله ذلك التكريم، أن يلوثوا أنفسهم بالمعاصي، ويدنسوها بالجرائم، بل اللائق بذلك النوع من الناس، أن يكون ممن يكرم نفسه، حيث أكرمه الله، ولا ينبغي له أن يعمل على بخس نفسه حقها، ونقصها قيمتها.

وعلى هذا الأسلوب قول الله - تعالى -: ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ والْبَحْرِ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70]، وقوله: يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ [البقرة/47] ؛ ذلك الأسلوب الذي يشعر المخاطب بعلو نفسه، وكبر منزله، ثم يطالبه بحقوق هذه العزة، وما تتطلبه تلك المنزلة، ويريه أن عصيان الله - تعالى - هو امتهان للنفس، ونزول عن المكان اللائق بها.

وكثيرًا ما يثمر ذلك النوع من التأثير في نفس المستمع، وكثيرًا ما انتفع الناس بالعظة من ناحية ما في نفوسهم من عظمة، وكثيرًا ما يلجأ الواعظ إلى أن يقول للمسرف على نفسه: إنَّك رجل من بيت طيب، وأرومة عالية، وأبوين شريفين، وقد كان لأبيك من المجد والسؤدد كيت وكيت، فلا يليق بك أن تجاري .. سفلة الناس في تهافتهم على المعصية، وانحدارهم إلى سفاسف الأمور. انتهى.

وننبه أنه مما هو معلوم أن هذه الأماكن الأثرية قد تكون أماكن عذاب ، ولعنة ، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من قصد أماكن المعذَّبين للزيارة ، أو النزهة .

وانظر في تفصيل ذلك، الجواب رقم: (133992).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب