الخميس 18 جمادى الآخرة 1446 - 19 ديسمبر 2024
العربية

تحريم الدعاء بالأمور المستحيلة عادة، وما يستثنى من ذلك

307589

تاريخ النشر : 14-05-2020

المشاهدات : 56866

السؤال

بما أن الله خلق الكون على نظام الأسباب والمسببات، فهل هذا يعني أن الدعاء تكون استجابته ضمن هذا القانون، أم إنه ممكن أن يستجاب دعاؤنا على هيئة تكون خارقة للعادة؟ إني أعلم أن الدعاء من الأسباب، والله تعالى هو المسبب، وأن فعل الأسباب من كمال التوكل على الله عزوجل، فإن دعوت الله تعالى أن أطير، أو أن يرجع بي الزمان وأكون صغيرا، فهل ممكن أن يتحقق، أو إنه تعدي بالدعاء؟ وإن كان تعدي فكيف رزق سيدنا زكريا بولد وكان شيخا كبيرا في السن؟ وكيف كانت النار بردا وسلاما على إبراهيم عليه السلام؟ وإن قلت لي : إن المعجزات تحدث للأنبياء فقط، إذًا كيف حدثت قصة أصحاب الكهف وهم ليسوا بأنبياء؟ هذه الأسئلة تخطر في بالي؛ لأن لي أخا لا يرى بإحدى عينيه منذ أن ولد، وقد فعلنا جميع الأسباب المقدور عليها في علاجه داخل وخارج البلاد، وليس هناك حل، فإن دعوت الله مع اليقين بالإجابة فهل من الممكن أن يبصر يوما دون وجود العلاج، أم إن إجابة الدعاء يجب أن يكون بها تسلسل الأسباب والمسببات؟ قد قال ابن القيم أن التوكل بدون الأسباب نقص بالعقل، والاعتماد على الاسباب دون الله شرك، ولكن ماذا إذا إنقطعت بك الأسباب؟ ماذا عن الرجل إذا ضاع بالصحراء وطلب من الله الماء وليس له طاقة بالبحث عنه؟ بعض الناس يقول : ادع بالمستحيل مع الله تعالى، وأطلب ما شئت، وبعضهم يقول : إنه تعدي بالدعاء، إن صحيت من النوم وأنا متأخر على وظيفتي، وأعلم أن الطريق يأخذ نصف ساعة، فهل من الممكن أن أدعو الله أن يجعلني أصل بعشر دقائق؟ قال تعالى : (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين)، حسب علمي أن التفسير لهذه الآية: بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه، لا جهارا ورياءا. فلم يذكر بالآية نهي عن الدعاء بالمستحيلات و الخوارق.

الجواب

الحمد لله.

أولا:

يحرم الاعتداء في الدعاء، لما روى أبو داود (96)، وابن ماجه (3864)، وأحمد (16847) أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها . فقال: أي بني سل الله الجنة ، وتعوذ به من النار ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:  إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء  والحديث صححه الألباني في "صحيح أبي داود".

ومن صور الاعتداء في الدعاء: سؤال الله المستحيل عادة، كالطير في الهواء، أو الرجوع إلى الصبا؛ لأنه إذا كان مستحيلا عادة في حقه، كان سؤاله سوء أدب مع الله.

ويستثنى من ذلك أمران:

1-سؤال الأنبياء ما هو خارق للعادة؛ لأنهم مؤيدون بالمعجزات، ويطلبون ذلك نصرة للدين.

وأضاف بعضهم: الولي، أي إذا جرى له خرق العادة.

2-أن يحصل للإنسان ضرورة من جوع أو برد شديد، أو يكون في صحراء.

ثانيا:

أما أصل الاعتداء في الدعاء، ففي بيانه يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالاعتداء في الدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله، من المعونة على المحرمات. وتارة يسأل ما لا يفعله الله مثل أن يسأل تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية: من الحاجة إلى الطعام والشراب. ويسأله بأن يطلعه على غيبه أو أن يجعله من المعصومين، أو يهب له ولدا من غير زوجة، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء ، لا يحبه الله ، ولا يحب سائله" انتهى من "مجموع الفتاوى" (15/ 22).

وقال الحصكفي في "الدر المختار"، ص73: "ويحرم سؤال العافية مدى الدهر، أو خير الدارين ودفع شرهما، أو المستحيلات العادية كنزول المائدة، قيل: والشرعية..." . انتهى.

والحق: حرمة الدعاء بالمغفرة للكافر، لا لكل المؤمنين كل ذنوبهم" انتهى.

وقال ابن عابدين في حاشيته عليه (1/ 522): "(قوله: ويحرم سؤال العافية مدى الدهر إلى قوله والحق..): هو أيضا من كلام القرافي المالكي، نقله عنه في النهر، ونقله أيضا العلامة اللقاني في شرح جوهرة التوحيد، فقال: الثاني من المحرم : أن يسأل المستحيلات العادية ، وليس نبيا ، ولا وليا في الحال، كسؤال الاستغناء عن التنفس في الهواء ليأمن الاختناق، أو العافية من المرض أبد الدهر، لينتفع بقواه وحواسه أبدا؛ إذ دلت العادة على استحالة ذلك، أو ولدا من غير جماع، أو ثمارا من غير أشجار.

وكذا قوله: اللهم أعطني خير الدنيا والآخرة لأنه محال، فلا بد من أن يراد الخصوص بغير منازل الأنبياء، ومراتب الملائكة، ولا بد أن يدركه بعض الشرور، ولو سكرات الموت ووحشة القبر، فكله حرام" انتهى.

وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم  : (213805) .

ثالثا:

وأما استثناء الأنبياء والأولياء:

فيقول القرافي رحمه الله:

"(القسم الثاني) من المحرم، الذي لا يكون كفرا: أن يسأل الداعي من الله تعالى المستحيلات العادية.

إلا أن يكون نبيا، فإن عادة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - خرق العادة؛ فيجوز لهم ذلك ، كما سألوا نزول المائدة من السماء ، وخروج الناقة من الصخرة الصماء.

 أو يكون وليا ، له مع الله تعالى عادة بذلك ؛ فهو جار على عادته ، فلا يعد ذلك من الفريقين قلة أدب" انتهى من "الفروق" (4/ 268).

رابعا:

وأما استثناء حالة الاضطرار:

فيقول البيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 373): " ثم إن له [أي الدعاء] : أركانا ، وآدابا .

فمن أركانه: أن يكون المرغوب فيه مما يبلغ قدرُ السائل أن يسأله.

وتفسيره: أنه ليس لأحد أن يتشبه بإبراهيم عليه السلام فيدعو الله جل ثناؤه أن يريه كيف يحيي الموتى، ولا أن يتشبه بموسى عليه السلام، فيقول: رب أرني أنظر إليك [الأعراف: 143]، ولا أن يتشبه بعيسى عليه السلام، فيقول: ربنا أنزل علينا مائدة من السماء [المائدة: 114]، ولا لأحد أن يسأل الله تعالى إنزال ملك عليه فيسأله عن خبر من أخبار السماء، أو إحياء أبويه؛ لأن نقض العادات إنما يكون من الله تعالى لتأييد من يدعو إلى دينه، لا لشهوات العباد ومُناهم.

إلا أن يكون السائل نبيا، فيجمع إجابته إياه: أمنيته، وتأييده بما يصدّق دعوته.

ولكنه، إن دعا كما دعا نوح عليه السلام، فقال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [نوح: 26] جاز؛ وإنما يبعثه عليه بغض أعداء الله.

وكذلك إن حدثت له ضرورة، من جوع أو برد شديد أو غير ذلك، في بادية هو مأذون له في دخولها من جهة الشرع، أو أصابه عمى ولا قائد له، فدعا الله أن يكشف ما به الضر مطلقا؛ كان ذلك جائزا، وإن كان في إجابته إياه نقض العادة.

وقد يفعل به ذلك من غير مسألته، جزاء له، لتوكله وقوة إيمانه" انتهى.

فمن كان تائهًا في صحراء واضطر للماء، فإنه يسأل الله كشف الضر مطلقا، ولو سأل الله السقيا فلا حرج، فإن الله شرع لنا الاستسقاء عند حصول الجدب.

خامسا:

لا حرج أن تسأل الله شفاء أخيك، دون بحث في كون الله يشفيه بعلاج أو بدون ذلك، فهذا إلى الله تعالى.

سادسا:

من خشي التأخر على وظيفته، وكان الطريق يأخذ نصف ساعة مثلا، فليدع ربه بالتيسير وأن يرفع عنه الحرج وألا يعرضه للمساءلة، ونحو ذلك.

وأما الدعاء بأن يصل في عشر دقائق، فهذا يُخشى أن يكون من الاعتداء، لما فيه من التفصيل، وقد يكون ذلك من سؤال المستحيل عادة في بعض صوره .

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب