الحمد لله.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ ) رواه أبو داود (1672)، والنسائي (2567)، قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: " قال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي، وهو كما قالا " انتهى من "السلسة الصحيحة" (1/ 510).
وعَنِ الْقَاسِمِ بن عبد الرحمن، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ بِشَفَاعَةٍ، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا ) رواه أبو داود (3541) والإمام أحمد في "المسند" (36 / 588)، وحسّنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (7 / 1371).
ولا تعارض بين هذين الحديثين ، وقد ذكر العلماء عدة أوجهٍ للجمع والتوفيق بينهما.
الأول :
أن يحمل حديث أبي أمامة في الشفاعة على من شفع لأخيه شفاعة وأراد بذلك وجه الله تعالى، فلا يجوز له أن يأخذ منه هدية أو أجرا بعد ذلك، حتى لا يضيع أجره عند الله.
سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" فضيلة الشيخ هذان حديثان صحيحان يوهم ظاهرهما التعارض: الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (من صنع إليكم معروفا فكافئوه ... ).
والحديث الثاني: (من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها؛ فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا)...
وهذا الإنسان الذي شفع لأخيه لا شك أنه صنع معه معروفا، فإذا أراد أن يكافئه فكيف يعتبر من الربا، أفيدونا جزاكم الله خيرا؟ وهل يحمل هذا على اشتراط الأجرة أو أخذ أجرة في هذا؟
فأجاب رحمه الله تعالى:
"هذا الحديث ... يراد بذلك الشفاعة التي يريد بها الإنسان وجه الله عز وجل: فإنه لا يقبل؛ لأن ما أريد به الآخرة لا يكون سبباً لنيل الدنيا، ولأن الشافع الذي يشفع يريد بذلك وجه الله، إذا أعطي هدية، فإن نفسه قد تغلبه في المستقبل فينظر في شفاعته إلى ما في أيدي الناس، فلهذا حذر من قبول الهدية" انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (83/16 ترقيم الشاملة).
الوجه الثاني:
أن يحمل حديث أبي أمامة رضي الله عنه على الشفاعة الواجبة، كالشفاعة لرفع ظلم، أو لرد حق .. ونحو ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وأما الهدية في الشفاعة: مثل أن يشفع لرجل عند ولي أمر ليرفع عنه مظلمة، أو يوصل إليه حقه، أو يوليه ولاية يستحقها، أو يستخدمه في الجند المقاتلة - وهو مستحق لذلك - أو يعطيه من المال الموقوف على الفقراء أو الفقهاء أو القراء أو النساك أو غيرهم - وهو من أهل الاستحقاق، ونحو هذه الشفاعة التي فيها إعانة على فعل واجب أو ترك محرم: فهذه أيضا لا يجوز فيها قبول الهدية، ويجوز للمهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصل به إلى أخذ حقه، أو دفع الظلم عنه. هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر.
وقد رخص بعض المتأخرين من الفقهاء في ذلك، وجعل هذا من "باب الجعالة"؛ وهذا مخالف للسنة وأقوال الصحابة والأئمة، فهو غلط؛ لأن مثل هذا العمل هو من المصالح العامة التي يكون القيام بها فرضا؛ إما على الأعيان؛ وإما على الكفاية " انتهى من "مجموع الفتاوى" (31/ 287).
وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
" وقد ترجم أبو داود للحديث بقوله: "باب في الهدية لقضاء الحاجة".
وعليه أقول: إن هذه الحاجة هي التي يجب على الشفيع أن يقوم بها لأخيه، كمثل أن يشفع له عند القاضي أن يرفع عنه مظلمة، أو أن يوصل إليه حقه، ونحو ذلك مما بسط القول فيه ابن تيمية رحمه الله...
وقد يتبادر لبعض الأذهان أن الحديث مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من صنع إليكم معروفاً؛ فكافئوه، فإن لم تستطيعوا أن تكافئوه؛ فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه ).
فأقول: لا مخالفة، وذلك بأن يحمل هذا على ما ليس فيه شفاعة، أو على ما ليس بواجب من الحاجة " انتهى من "السلسلة الصحيحة" (7/1372).
الوجه الثالث:
أن يحمل حديث أبي أمامة على عموم الشفاعة، ويكون هذا مخصصا لحديث ابن عمر.
قال الصنعاني رحمه الله في "سبل السلام" (5/128) في شرحه لحديث أبي أمامة :
"ولعل المراد إذا كانت الشفاعة في واجب ... أو كانت في محظور ...
وأما إذا كانت الشفاعة في أمر مباح: فلعله جائز أخذ الهدية؛ لأنها مكافأة على إحسان غير واجب.
ويحتمل أنها تحرم، لأن الشفاعة شيء يسير لا تؤخذ عليه مكافأة " انتهى .
ثانيا:
وأما ما يخص مسألتك.
فإذا كان هذا الموظف يقوم بعمل وجهد، فلا حرج من إعطائه أجرة أو هدية على ذلك، لأنها حينئذ في مقابلة ما قام به من عمل.
وأما إذا كان عمله محصورا في الشفاعة فقط، ولا يقوم بأي عمل آخر، فهذا محل خلاف بين العلماء، فالشافعية والحنابلة يجيزونه، ويسمونه : "ثمن الجاة" .
وقد سبق بيان هذا في عدة أجوبة : ينظر: (220599)، (260187)، (120819).
والله أعلم.
تعليق