الحمد لله.
أولا:
قال الله تعالى : وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ النحل/68 - 69 .
ووحي الله تعالى إلى النحل، معناه: أنه "يلهمهما" ما فيه مصحلتها، وما به قوام عيشها. فالمعنى : أن الله ألهم النحل أن تتخذ من الجبال بيوتًا ومن الشجر ، ومما يبنى من السقوف ، أو يبنيه أصحابها لها ، وألهمها الله تعالى أن تأكل من الثمرات ، وسهل لها الطرق والمسالك إلى ما فيه رزقها، ومصالح عيشها.
وهذا من نعمة الله ورحمته بالناس ، وإظهار لقدرته سبحانه على هداية المخلوقات ، فإنه سبحانه وبحمده أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى طه/50 .
قال ابن كثير : "المراد بالوحي هاهنا: الإلهام والهداية والإرشاد إلى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتا تأوي إليها ، ومن الشجر ، ومما يعرشون .
ثم هي محكمة في غاية الإتقان في تسديسها ورصها ، بحيث لا يكون بينها خلل .
ثم أذن لها تعالى إذنا قدريا تسخيريا؛ أن تأكل من كل الثمرات ، وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى لها مذللة ، أي : سهلة عليها حيث شاءت ، في هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة ، والأودية والجبال الشاهقة ، ثم تعود كل واحدة منها إلى موضعها وبيتها ، لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة ، بل إلى بيتها ، وما لها فيه من فراخ وعسل ، فتبني الشمع من أجنحتها ، وتقيء العسل من فِيها ، وتبيض الفراخ من دبرها ، ثم تصبح إلى مراعيها "، انتهى من "تفسير ابن كثير" (4/ 582).
ثانيا:
هذا الوحي لا يقتصر على النحل ، بل لكل مخلوق هداية وإلهام يلهمه الله إياه سبحانه وبحمده. وبهذه العلامة والآية على وحدانية الله رب العالمي، عرف نبي الله موسى ربه، إلى عدو الله، فرعون اللعين. قال تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى الشعراء/49-51 .
قال الشيخ السعدي رحمه الله: "أي: قال فرعون لموسى على وجه الإنكار: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى؟ فأجاب موسى بجواب شاف كاف واضح، فقال: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى أي: ربنا الذي خلق جميع المخلوقات، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، الدال على حسن صنعه من خلقه، من كبر الجسم وصغره وتوسطه، وجميع صفاته.
ثُمَّ هَدَى كل مخلوق إلى ما خلقه له، وهذه الهداية العامة، المشاهدة في جميع المخلوقات؛ فكل مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المنافع، وفي دفع المضار عنه، حتى إن الله تعالى أعطى الحيوان البهيم من العقل، ما يتمكن به على ذلك.
وهذا كقوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؛ فالذي خلق المخلوقات، وأعطاها خلقها الحسن، الذي لا تقترح العقول فوق حسنه، وهداها لمصالحها، هو الرب على الحقيقة، فإنكاره إنكار لأعظم الأشياء وجودا، وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب، فلو قدر أن الإنسان، أنكر من الأمور المعلومة ما أنكر، كان إنكاره لرب العالمين أكبر من ذلك" انتهى، من "تفسير السعدي" (506).
وجاء في "التفسير الوسيط - مجمع البحوث" (5/ 646): " النحل : من الحشرات النافعة للبشرية ، بما تفرزه عن العسل الذي جعل الله فيه شفاء للناس وسميت بهذا الاسم ، لأن الله سبحانه نحلها هذا العسل ، كما قال الزجاج والجوهرى : أي منحها إياه .
وقد أخبر الله في هذه الآية والتي تليها عن المنهج الذي تسلكه حتى تخرج لنا العسل من بطونها، ليتغذى به الناس ويستشفوا من كثير من الأمراض ، وبين - سبحانه وتعالى - أن سلوكها هذا المنهج : بوحى منه جل وعلا .
وللوحى في اللغة معان مختلفة ، والمراد منه هنا الإلهام ، وهو ما يخلقه الله في القلب ابتداء من غير سببٍ ظاهرٍ .
ولا يقتصر هذا الوحى على النحل ، بل تفضَّل الله به على كل حيوانٍ فقد ألهمه الله - تعالى - ما فيه منافعه فيسعى إليه ، وما فيه مضاره فيجتنبه ، وما فيه معاشه فيدبره ، حتى لتراه يختزن قُوْتَه في الشتاء، إذا كان لا يستطيع الظهور فيه والتعرض لبرده ، فلهذا يملأ مخازنه بالطعام ، ويعقمه بما يجعله صالحًا ولا يتعرض للفساد .
ولم يقتصر هذا الإلهام على الحيوان بل تعداه إلى النبات والجماد ، فإن البذور والنوى ، يلهمها الله أن تتجه بجذورها إلى أسافل جوف الأَرض لتستمسك بها وتتغذى منها ، وتتجه ببراعمها وسيقانها وأوراقها وفروعها إلى أعلى دون أن يطرأَ على منهجها هذا أَي اختلاف .
وألهم الأَرض أَن تغذِّي جذور النبات ، وتيسر لها سبيل التعمق داخلها ، ولو كانت الأرض صخرية، فكم من غابات وأشجار وأَعشاب تنبت في الأَرض الجبلية.
هذا إِلى جانب ما يتم داخلها من التحولات الخطيرة، التي تنشأ عنها المعادن والغازات والعناصر المختلفة، وكل ذلك يتم بإلهام الله وتدبيره.
ولقد أحسن إبراهيم الحربي قوله : لله عز وجل في الموات قدرة، لم يُدْر ما هي ، لم يأتها بها رسول من عند الله ، ولكن الله تعالى عرفها ذلك.
ولا غرابة فى ذلك ، فقد جاء القرآن الكريم بذلك صراحة عن الأرض فى سورة الزلزلة فقد قال تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا : أي ألهمها وأعطاها من الأَسباب ما نشأَت عنه تلك المسببات .
ولم يحرمنا القرآن العظيمُ ولا السنةُ المطهرة من الإشارة إِلى تلك العجائب التي لم يستطع الإنسان أن يكشف الكثير من أخبارها وأسرارها ، فالله تعالى يقول إنه أَمر الجبال والطير أن تُؤَوِّب في التسبيح، وترجِّعه مع داود ، وذلك في قوله فى سورة سبإ : وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ . وفى سورة ص إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ .
والرسول يقول في جبل أُحد: أُحُدٌ يُحِبُّنا وَنُحِبُّهُ فوصف الجبل الأصم بأنه يحب الرسول. ورجف أُحُدٌ والنبي فوقه وأبو بكر وعمر وعثْمان فخاطبه النبي قائلًا: اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّما فَوْقَكَ نَبيٌّ وَصِدِّيقٌ وشهيدان أخرجه البخاري وغيره.
ومن عجائب إلهام الله للحيوان: ما وقع يوم وصول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، حيث تجاذب الصحابة ناقته القصواء وهو عليها ، ليكون الرسول ضيفًا كريمًا على من يفوز بها منهم ، فقال لهم: خلُّوا سَبِيلها فإنها مأمورةٌ فتركوها وأرخى النبي زمامها دون أَن يوجهها ، فجعلت تنظر يمينا وشمالا أَثناء سيرها، حتى بَرَكَتْ بفناء بنى عدى بن النجار أمام مِرْبد سهل وَسُهَيل ولدى رافع بن عمرو ، ثم ثارت الناقة والرسول عليها حتى بركت أمام باب أبي أيوب الأنصاري ، ثم ثارت وبَرَكَتُ في مبركها الأول وَأرْزَمَت، "أَي صوَّتَتْ دون أن تفتح فمها"، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم عنها وقال : هَذَا الْمَنْزِلُ إنْ شاء اللهُ ، واحتمل أبو أيوب رحله وأدخله بيته...
وقصة ( الهدهد ) العجيبة مع سليمان ، وكذا قصة ( النملة ) في توعيتها للنمل من أن يحْطِمهُ سليمان وجنوده ، وتعليم الله سليمان منطق الطير، كل ذلك واضح في أن لها إِدراكات ونطقا، وعبارات لا يعلمها إلا من علمه الله ، فلا غرابة في أن يُعبر الله عن إلهامه للنحل في معاشها بالوحى ، لأن لها إدراكات تعي بها هذا الإلهام ، فتبارك الله أَحسن الخالقين" انتهى .
والله أعلم.
تعليق