الحمد لله.
أولا:
هذا الحديث رواه عدد من الصحابة منهم أبو هريرة رضي الله عنه كما في "صحيح مسلم" (145) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ .
فالحديث ، كما يظهر من ألفاظه ، لا يتحدث عن نهاية الإسلام وأتباعه؛ وإنما عن قلة المتمسكين به، حتى يصبحوا بين الناس غرباء.
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى:
" أي أنه كان في أول أمره كالغريب الوحيد الذي لا أهل له عنده، لقلة المسلمين يومئذ، وسيعود غريبا كما كان؛ أي: يقل المسلمون في آخر الزمان، فيصيرون كالغرباء.
فطوبى للغرباء: أي الجنةُ لأولئك المسلمين الذين كانوا في أول الإسلام، ويكونون في آخره، وإنما خصهم بها لصبرهم على أذى الكفار أولا وآخرا، ولزومهم دين الإسلام " انتهى من "النهاية في غريب الحديث" (3 / 348).
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا إلى الإسلام: لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة، وكان المستجيب له خائفًا من عشيرته وقبيلته، يؤذى غاية الأذى، وينال منه وهو صابر على ذلك في الله عز وجل، وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين، يطردون ويشردون كل مُشَرَّدٍ، ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية، كما هاجروا إلى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إلى المدينة، وكان منهم من يعذَّب في الله، وفيهم من قُتل، فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء.
ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة، وعزّ، وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجا، وأظهر الله لهم الدين، وأتم عليهم النعمة.
وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم، وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا على ذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
ثم أعمل الشيطان مكائده على المسلمين، وألقى بأسهم بينهم، وأفشى بينهم فتنة الشبهات والشهوات، ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئا فشيئا، حتى استحكمت مكيدة الشيطان، وأطاعه أكثر الخلق، فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما، وكل ذلك مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه...
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى على أمته هاتين الفتنتين...
فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين، أو إحداهما؛ أصبحوا متقاطعين متباغضين، بعد أن كانوا إخوانا متحابين متواصلين، فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق، ففتنوا بالدنيا وزهرتها، وصارت غاية قصدهم، لها يطلبون، وبها يرضون، ولها يغضبون، ولها يوالون، وعليها يعادون، فتقطعوا لذلك أرحامهم، وسفكوا دماءهم، وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك.
وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أهل القبلة، وصاروا شيعا، وكفر بعضهم بعضا، وصاروا أعداءً وفرقا وأحزابا، بعد أن كانوا إخوانا، قلوبهم على قلب رجل واحد، فلم ينج من هذه الفرق إلا الفرقة الواحدة الناجية، وهم المذكورون في قوله صلى الله عليه وسلم : لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ .
وهم في آخر الزمان الغرباء المذكورون في هذه الأحاديث... لأنهم قلوا، فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان، وقد لا يوجد في بعض القبائل منهم أحدٌ، كما كان الداخلون إلى الإسلام في أول الأمر كذلك، وبهذا فسر الأئمة هذا الحديث " انتهى من"كشف الكربة – ضمن مجموع رسائل ابن رجب" (1 / 319).
ثانيا:
الزمن المقصود بهذه الغربة، هو على أحد احتمالين:
الاحتمال الأول: هو زمن الفتن ما قبل خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام؛ حيث تكثر الفتن، ويقل القائمون بأمر الله تعالى، الداعون إليه، حتى يصبحوا عبارة عن طائفة وفئة قليلة، فهذا الزمن يعقبه زمن تمكين للإسلام وأهله.
كما في حديث جابر قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ رواه مسلم (156).
وقد أشار أهل العلم إلى أن حديث الغربة هذا من باب تبشير المسلمين، فكما أن الغرباء الأوائل نصرهم الله تعالى حتى نشروا الإسلام في الأرض؛ فكذلك غرباء آخر الزمن ينصرهم الله تعالى ويمكن بهم الإسلام التمكين الكامل ويرثوا الأرض.
جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" (2 / 171):
" وقد رأى جماعة - منهم الشيخ محمد رشيد رضا - أن في الحديث بشارة بنصرة الإسلام بعد غربته الثانية، آخذين ذلك من التشبيه في قوله صلى الله عليه وسلم: ( وسيعود غريبا كما بدأ )، فكما كان بعد الغربة الأولى عز للمسلمين وانتشار للإسلام؛ فكذا سيكون له بعد الغربة الثانية نصر وانتشار...
وهذا هو الأظهر، ويؤيده ما ثبت في أحاديث المهدي، ونزول عيسى عليه السلام آخر الزمان، من انتشار الإسلام وعزة المسلمين وقوتهم ودحض الكفر والكفرة.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الله بن قعود ، عبد الله بن غديان ، عبد الرزاق عفيفي ، عبد العزيز بن عبد الله بن باز " انتهى.
الاحتمال الثاني: أن الزمن المقصود بهذه الغربة هو الزمن الذي يلي التمكين الكامل للإسلام، بعد وفاة عيسى عليه السلام؛ حيث إنه بعد تمكين للإسلام وانتشار الأمن والإيمان، يبدأ الناس في نسيان دينهم، حتى تبقى قلة منهم غرباء، ويقترب وقت الساعة؛ فيبعث الله ريحا طيبة تقبض أرواحهم؛ لانتهاء أمر الدنيا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وقوله صلى الله عليه وسلم ( ثم يعود غريبا كما بدأ ) يحتمل شيئين:
أحدهما: أنه في أمكنة وأزمنة يعود غريبا بينهم، ثم يظهر، كما كان في أول الأمر غريبا ثم ظهر. ولهذا قال ( سيعود غريبا كما بدأ )؛ وهو لما بدأ، كان غريبا لا يُعرف، ثم ظهر وعُرف، فكذلك يعود حتى لا يُعرف، ثم يظهر ويعرف. فيقلّ من يعرفه في أثناء الأمر، كما كان من يعرفه أولا.
ويحتمل: أنه في آخر الدنيا لا يبقى مسلما إلا قليل. وهذا إنما يكون بعد الدجال ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة. وحينئذ يبعث الله ريحا تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ثم تقوم القيامة. وأما قبل ذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ). وهذا الحديث في الصحيحين، ومثله من عدة أوجه.
فقد أخبر الصادق المصدوق، أنه لا تزال طائفة ممتنعة من أمته على الحق، أعزاء لا يضرهم المخالف، ولا خلاف الخاذل.
فأما بقاء الإسلام غريبا ذليلا ، في الأرض كلها ، قبل الساعة : فلا يكون هذا " انتهى من "مجموع الفتاوى" (18 / 298).
ثم؛ عجبا لهذا القائل، المجادل، يتحدث عن غربة الإسلام، ويتربص بالإسلام أن يزول، وبأهله الدوائر، لما جاء في حديث الغربة؛ أفلا ذكر أيضا حديث عيسى ابن مريم عليه السلام، حينما ينزل في آخر الزمان، فيضع الجزير، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ولا يقبل من أحد سوى الإسلام دينا ؟!
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (222036) .
والله أعلم.
تعليق