الحمد لله.
الأصل أن المسلم إذا جاءه مال من غير سؤال ومن غير تطلع النفس؛ فإنه يشرع قبوله.
عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ، يَقُولُ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي العَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي!
فَقَالَ: خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ، فَخُذْهُ وَمَا لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ رواه البخاري (1473)، ومسلم (1045).
والواعظ والمدرس في المسجد، هما كسائر المسلمين يشرع لهما قبول مثل هذا المال.
جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (42 / 260 - 261):
" ذهب فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه لا تحرم على المفتي والواعظ ومعلم القرآن والعلم الهدية؛ لأنه ليس لهم أهلية الإلزام؛ ولكن الأولى في حقهم : إن كان سبب الهدية مقابل ما يحصل منهم، من الإفتاء والوعظ والتعليم : عدم القبول ، ليكون عملهم خالصا لوجه الله تعالى.
وإن أهدي إليهم تحببا وتوددا لعلمهم وصلاحهم : فالأولى القبول " انتهى.
لكن يستحب إن قبل الواعظ هذه الهدية أن يثيب المهدي، كما كان هديه صلى الله عليه وسلم.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا" رواه البخاري (2585).
فالحاصل؛ أنه من حيث الأصل يشرع قبول مثل هذا المال الذي أتى من غير سؤال.
لكن إن كان قبول هذه الهدية يجر مفسدة؛ كأن يمنّ عليك هؤلاء المصلون بهداياهم، وترى بأنه يؤثر على تعليمهم ووعظهم، فالأولى تجنبها وعدم قبولها.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" قبول الهدية من هدي النبي صلى الله عليه وسلم حتى إن بعض أهل العلم قال: يجب قبول الهدية إذا تمت الشروط، والشروط هي: أن لا يكون هذا المهدي ممن عرف بالمنَّة؛ أي أن لا يكون من المنَّانين، لأن قبول هدية المنانين قد تجلب الأذية، فقد يقوم هذا الشخص الذي أهدى بالكلام بين الناس بأني أهديت إلى فلان كذا وأهديت إليه كذا وما أشبه ذلك، ففي هذا الحال للإنسان مناص في عدم قبول الهدية؛ لئلا يتأذى بِمَنِّ ذلك الشخص " انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (9 / 287).
على أنه ينبغي للداعية ألا يضع نفسه في موضع يذل فيه نفسه .
فكونه يقبل مثل هذا المال أمام الناس – لا شك أن فيه كسرًا لنفسه -، ثم لعله أن يتتابع أهل المسجد على هذا، فيتسع الأمر عليه، ويعظم؛ وذلك مما قد يؤثر على دعوته، وتعليمه ونصحه وإرشاده للناس، وتعريفهم والإنكار عليهم.
فالأولى عدم قبوله .
لكن ما أتاه من هذا المال بلا طلب ولا استشراف نفسه، ولم يكن على سبيل الإعلان أمام الناس، ولم يخش منه مفسدة فلا حرج عليه في قبوله.
فإن خشي مفسدة ، فلا يقبله .
على أن سد هذا الباب بالكلية، وصيانة النفس عن مثل ذلك، والتعفف عن القبول من المتعلم والمدعو، ونحو ذلك ، وتخليص النية في التعليم : هدي معروف عن السلف أيضا ، كان يسلكه نفر من كبارهم:
فعن سعيد بن سالم - صاحب الأوزاعي -: قدم أبو مرحوم من مكة على الأوزاعي، فأهدى له طرائف، فقال له:
إن شئت، قبلت منك، ولم تسمع مني حرفا، وإن شئت، فضم هديتك، واسمع." انتهى من "سير أعلام النبلاء" (7/132).
وقال إسحاق بن الجراح: حدثنا محمد بن الحجاج، قال:
كان رجل يسمع معنا عند حماد بن سلمة، فركب إلى الصين، فلما رجع، أهدى إلى حماد هدية.
فقال له حماد : إن قبلتها لم أحدثك بحديث، وإن لم أقبلها حدثتك.
قال: لا تقبلها، وحدثني" انتهى من"سير أعلام النبلاء" (7/449).
والله أعلم.
تعليق