الحمد لله.
أولا:
مفهوم " الضمير" ونشأة استعماله
جاء في "المعجم الوسيط" (1/544) : " (الضَّمِير) : الْمُضمر ، وَمَا تُضمره فِي نَفسك ، ويصعب الْوُقُوف عَلَيْهِ .
واستعداد نَفسِي لإدراك الْخَبيث وَالطّيب من الْأَعْمَال والأقوال والأفكار، والتفرقة بَينهَا، واستحسان الْحسن واستقباح الْقَبِيح مِنْهَا " انتهى.
والواقع أن حدود "الضمير" في الفلسفة الأخلاقية الحديثة والمعاصرة: لا تقف عند حد "الإدراك"، و"التفرقة" و"الاستحسان"؛ بل هو مع ذلك كله، أو فوق ذلك كله: مصدر أعلى لتوجيه الفعل الأخلاقي، وضبطه، والرقابة عليه.
وهذا الضمير، بما يتعارفه الناس اليوم، وبما هو مفهوم مركزي في الفلسفة الأخلاقية الحديثة: ليس له أصل في التراث الإسلامي كله!!
فليس في النظرية الأخلاقية الإسلامية" : حديث عن "الضمير" بوصفه مصدرا للاستمداد الأخلاقي، ولا بوصفه أداة مطلقة عن كل سلطة أخرى، سوى سلطة "الفرد" و"الذات"، تكون – بنفسها – مصدر الفعل الأخلاقي للشخص، والموجِّه له، والرقيب عليه.
وإنما نشأ هذا المفهوم للضمير، أو اختُرع هذا الأساس المصدري، الباطن، والغائم أيضا: في أوروبا في "العصر الوسيط" ، وكان أهم أداة، أو مفهوم في سبيل "عَلْمَنة" الفكر الأخلاقي، والبعد به عن سلطان الدين؛ فبدلا من أن يكون مصدر "الأمر" و"الإلزام" هو الوحي، والشرع الإلهي، والكتب المقدسة، وبدلا من أن يكون المدار في إدراك "حسن" الفعل الأخلاقي، و"خيريته" على الوحي، والشرع؛ انتزعت هذه المرجعية، في إطار التخلص من سلطة الدين، كل الدين، وفوضت إلى ذلك "المفهوم" الذاتي، الفردي!!
فالضمير في الفكر الأخلاقي المعاصر – العلماني - : هو سلطة أخلاقية، معادلة لسلطة: الوحي، والشرع، و"الإله" نفسه!!
ينظر بتوسع، مقال: "علمنة الأخلاق وظهور مجال الضمير"
ثانيا:
الضمير وحده ليس كافياً للدعوة لفعل الخير والبعد عن الشر
ليس معنى ما قدمناه أن "الضمير"، بما نعرفه اليوم: لا مدخل له في سلوك الإنسان، ولا في حجزه عن المعاصي، ولا في دعوته للخير... ، ولا أننا ننفي بذلك ما يقول الناس عنه إنه "الضمير".
بل الذي نريد أن نقوله: إن ذلك "الضمير" وحده ليس كافيا في الدعوة إلى الخير، ولا المنع من الشر؛ ولا هو بالمفهوم الفلسفي: مناط هذه الدعوة، ولا مناط إصلاح العبد، وهدايته.
الإيمان بالله يهدي للخير ويبعد عن الشر
إنما "الشيء" الحقيقي بداخلنا، يمنعنا من المعاصي، ويهدينا إلى البر، ويقوي إرادتنا للخير، وامتناعنا من الشر، ويهدينا إلى تفاصيل ذلك كله، فهو "الإيمان" برب العالمين، الإيمان بقيوميته، سبحانه، وقيامه على كل نفس بما كسبت، ورقابته للعبد، وسمعه له ، وبصره به ، وإحاطته بالخلق علما، وخبرة، وسمعا، وبصرا، وقدرة.
أن يؤمن أن الله جل جلاله : هو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، وأنه مهما قال، أو عمل؛ فإن الله يراه : اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ البقرة/255.
وقال تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ يونس/61.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " اجْتَمَعَ عِنْدَ البَيْتِ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ - أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ - كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتُرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلاَ يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ [فصلت: 22] الآيَةَ" رواه البخاري (4817)، ومسلم (2775).
فهذا الإيمان برب العالمين، هو الذي يهدي العبد إلى تفاصيل الخير والشر، ويقوي إرادته لعمل الخير، وترك الشر، ويصبره على ذلك.
ولذلك كثر في النصوص الشرعية ربط أعمال العبد بالإيمان، وترك المعصية أيضا بالإيمان.
غير أن ها هنا أمرا عظيما وراء ذلك، وهو نقاء الفطرة التي فطر الله عباده عليها؛ فإن الله تعالى فطر عباده على توحيده، والإيمان به، ولم ينحرف إلى الشرك إلا من تخطفته الشياطين عن التوحيد إلى الشرك، وهذه الفطرة : هي نور يشع في قلب المؤمن، يدعوه إلى "المجمل" ، والهداية "العامة" ؛ فإذا ما جاءه شرع الله بتفاصيل ذلك: ازداد نورا على نور.
قال الله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ النور/35.
" عن أبي بن كعب في قول الله تعالى: الله نور السموات والأرض قال: هو المؤمن الذي جعل [الله] (4) الإيمان والقرآن في صدره، فضرب الله مثله فقال: الله نور السموات والأرض فبدأ بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن فقال: مثل نور من آمن به. قال: فكان أبي بن كعب يقرؤها: "مثل نور من آمن به فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره" انتهى من "تفسير ابن كثير" (6/57).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:
" النفسُ إِنَّما تنالُ كمالَها بسعادَتِها ونَجَاتِها ؛ بالفِطْرةِ المُكَمَّلَة ، بالشِّرْعَةِ المُنَزَّلََة " انتهى من "الصفدية" (2/157).
وعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم قَالَ : ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَعَلَى جَنَبَتَىِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا، وَلاَ تَتَعَرَّجُوا وَدَاعِي يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ قَالَ وَيْحَكَ لاَ تَفْتَحْهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ وَالصِّرَاطُ الإِسْلاَمُ وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللهِ تَعَالَى وَالأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللهِ تَعَالَى وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ رواه أحمد (17634) وقال محققوه: "حديث صحيح".
قال الإمام الطحاوي، رحمه الله:
" تأملنا هذا الحديث، فوجدنا كل ما فيه مكشوفَ المعنى، غير ما فيه من : ( واعظ الله في قلب كل مسلم ) ؛ فإنا احتجنا إلى الوقوف على حقيقته ما هو ؟
فنظرنا في ذلك ، فوجدنا الواعظ من الآدميين هو الذي ينهى الناس عن الوقوع فيما حرم الله تعالى عليهم ؛ فعقلنا بذلك : أن مثله في قلب المسلم : هي حجج الله تعالى التي تنهاه عن الدخول فيما منعه الله عز وجل ، وحظره عليه ، وإنها هي واعظ الله في قلبه ؛ من البصائر التي جعلها الله تعالى فيه ، والعلوم التي أودعه الله تعالى إياها ؛ فيكون نهيها إياه عن ذلك وزجرها إياه عنه ، كنهي غيرها من الناس - الذين في قلوبهم مثلها - إياه عن ذلك . والله نسأله التوفيق" انتهى من "شرح مشكل الآثار"(5/171).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:
" فقد بين في هذا الحديث العظيم - الذي من عرفه انتفع به انتفاعا بالغا إن ساعده التوفيق؛ واستغنى به عن علوم كثيرة - أن في قلب كل مؤمن واعظا والوعظ هو الأمر والنهي؛ والترغيب والترهيب. وإذا كان القلب معمورا بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت؛ بخلاف القلب الخراب المظلم؛ قال حذيفة بن اليمان: إن في قلب المؤمن سراجا يزهر" انتهى من "مجموع الفتاوى" (20/45).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم:(302661).
وينظر أيضا لمزيد الفائدة: باب المراقبة، من الكتاب المبارك: "رياض الصالحين"، للإمام النووي، رحمه الله، و"منزلة المراقبة" من كتاب: "مدارج السالكين" للإمام ابن القيم، رحمه الله.
والله أعلم.
تعليق