الحمد لله.
غاية ما ورد في هذا الشأن هو أن بعض أهل الكفر أخبروا عن أنفسهم أنهم لا يوسوسون في عباداتهم؛ فبلغ هذا بعض أهل العلم ، ففسره بأن انتفاء الوسوسة عنهم لا يرجع إلى صحة معتقدهم؛ وإنما هذا دليل على ضلالهم وأن الشيطان يعجبه عملهم.
فروى الإمام أحمد في "الزهد" (1433) قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِلْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ: "إِذَا صَلَّيْتُ وَحْدِي لَمْ أَعْقِلْ صَلَاتِي؟ قَالَ: أَبْشِرْ، فَإِنَّ ذَلِكَ عِلْمٌ مِنَ الْخَيْرِ، أَمَا رَأَيْتَ اللُّصُوصَ مَرُّوا بِالْبَيْتِ الْخَرِبِ وَلَمْ يَلْوُوا عَلَيْهِ ، فَإِذَا مَرُّوا بِالْبَيْتِ الَّذِي يَرَوْا فِيهِ الْمَتَاعَ ، زَاوَلُوهُ حَتَّى يُصِيبُوا مِنْهُ شَيْئًا".
وأما كون أهل الكفر لا تنتابهم مطلقا الخواطر والأفكار أثناء عباداتهم الشركية ؛ فليس هناك ما يدل عليه في أصول الشرع وأدلته ، ولم نقف ، أيضا على من صرح بذلك من أهل العلم؛ بل المعقول أن ينتابهم ذلك؛ لأن الأفكار والخواطر أثناء التعبد على ضربين:
الضرب الأول: ما يوسوس به الشيطان لصاحب العبادة في عبادته، ويشوش به على المتعبد في عباداته؛ فهذا الأصل فيه أن يرد على صاحب العبادة الصحيحة دون غيره من الضالين؛ لأن الشيطان همه إضلال الناس لا إصلاحهم؛ فلذا يسعى للتشويش على من يريد الخير.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا نُودِيَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ الأَذَانَ، فَإِذَا قُضِيَ الأَذَانُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ، أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا، مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ رواه البخاري (1231)، ومسلم (389).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله تعالى بذكر أو غيره، لا بد له من ذلك، فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر، ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة، ولا يضجر، فإنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان، ( إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ).
وكلما أراد العبد توجها إلى الله تعالى بقلبه ، جاء من الوسواس أمور أخرى، فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد يسير إلى الله تعالى أراد قطع الطريق عليه؛ ولهذا قيل لبعض السلف: إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس، فقال: صدقوا، وما يصنع الشيطان بالبيت الخراب " انتهى من "مجموع الفتاوى" (22 / 608).
وأما أهل الكفر فهم أولياء للشيطان، فهو يزين لهم ضلالهم، حتى لا ينصرفوا عنه؛ كما أخبر بهذا الوحي.
كقول الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ الأعراف/27.
وقول الله تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ النحل/63 .
وقال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ، وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ الأعراف/201 - 202 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" وأما إخوان الشياطين وأولياؤهم، فإنهم إذا وقعوا في الذنوب، لا يزالون يمدونهم في الغي، ذنبا بعد ذنب، ولا يُقصرون عن ذلك، فالشياطين لا تُقصر عنهم بالإغواء، لأنها طمعت فيهم، حين رأتهم سلسي القياد لها، وهم لا يُقصرون عن فعل الشر " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 313).
الضرب الثاني: خواطر وأفكار من الإنسان نفسه، نتيجة إعمال فكره، أو لعِلة فيه؛ فهذه واردة على الناس جميعا، مؤمنهم ، وكافرهم.
فالكافر قد يُعمل عقله أثناء تعبده، فإذا كان صادقا في البحث عن الحق، لا بد وأن تراوده الشكوك فيما هو فيه من عبادات تعارض العقل السليم، ولذا يدخل في الإسلام من يدخل منهم من عامتهم ورؤوسهم لما يدركوا فساد ما هم عليه.
والكافر تصيبه من العلل الجسدية والنفسية، ما يسبب له الوساوس والشكوك، كما هو الحال في الناس جميعا.
فالحاصل؛ أنه إذا صح القول بنفي الوسوسة عن الكفار؛ فإنما هو نفي خاص جدا ، والمراد به : نفي أن يوسوس له في عباداته، بما يفسدها عليه ؛ فعبادات الكفار الشركية والبدعية : باطلة من أصلها ، فلا حاجة للشيطان في أن يصرفهم عنها ، ولا أن يفسدها عليهم .
وأما وسوسة التزيين لضلالهم ، فهي حاصلة .
ووسوسة الصرف عن الإيمان ، وأعماله : فحاصلة ، لا إشكال في ذلك كله .
والله أعلم.
تعليق