الخميس 18 رمضان 1445 - 28 مارس 2024
العربية

الجمع بين حديث :" كل مولود يولد على الفطرة " ، وحديث :" كلكم ضال إلا من هديته ".

317246

تاريخ النشر : 22-02-2020

المشاهدات : 60957

السؤال

كيف يمكننا الجمع بين الحديث : (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته) ، أي يعني الكل بفطرته ضال ، ولكن الله يهديه، وبين الحديث (كل مولود يولد على الفطره، فاباه يهودانه....) يعني هنا كل إنسان على الفطرة مسلم وليس ضالا؟

الجواب

الحمد لله.

فإن نصوص الكتاب والسنة الصحيحة وحي من عند الله ، لا تعارض بينها ، ولا يضاد بعضها الآخر .

والواجب على من أراد معرفة الحق في قضية ما أن يجمع فيها النصوص الواردة ، ثم ينظر إلى أقوال أهل العلم المجتهدين في بيان معاني هذه النصوص ، وحينئذ لن يجد تعارضا ألبتة .

أما بخصوص محل السؤال :

فقد وردت عدة أحاديث في هذه المسألة ، وكلها متوافقة إن شاء الله ، وبيان ذلك كما يلي :

أولا : هذه بعض النصوص الصحيحة في المسألة محل الذكر :

الحديث الأول :

أخرجه البخاري في "صحيحه" (1385)، ومسلم في "صحيحه" (2658) ، من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ، كَمَثَلِ البَهِيمَةِ تُنْتَجُ البَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاء .

وفي معناه :

الحديث الثاني :

أخرجه مسلم في "صحيحه" (2865) ، من حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ:  أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا ، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا ... .

الحديث الثالث :

أخرجه مسلم في "صحيحه" (2577) ، من حديث عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:  يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي ، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا ، فَلَا تَظَالَمُوا ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ...  .

ثانيا : الجمع بين هذه الأحاديث :

يدل الحديث الأول والثاني على أن الله تعالى خلق العباد على الفطرة ، وأن شياطين الإنس والجن هم من يغيرون فطرة الناس فيتحولوا إلى الكفر.

والفطرة في الحديث الأول : هي "الحنيفية" التي خلق الله عباده عليها، كما في الحديث الثاني.

يقول شيخ الإسلام:

" والله تعالى فطر عباده على محبته ومعرفته، وهذه هي الحنيفية التي خلق عباده عليها، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: ( يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ) .

وقد قال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم .

وقال صلى الله عليه وسلم: ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء )" انتهى، من "درء  التعارض" (7/426).

ذكر أهل العلم عدة معان للفطرة التي فطر الناس عليها ، وأرجح الأقوال :

أن الله خلق الناس وفطرهم على قبول الإسلام ، والميل له دون غيره ، والاستعداد لقبول الحق ، فكل مولود يولد خاليا عن دواعي الضلالة ، فلو ترك كل مولود وشأنه لهدته فطرته إلى أن للكون ربا مدبرا واحدا أحدا .

وهذه هي الهداية بالقوة ، أي الاستعداد والتهيؤ لقبول الحق .

وأما معنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه :( كلكم ضال إلا من هديته ) :

فالمقصود بالهداية هنا :

إما أن يكون المقصود : معرفة الحق والإيمان بتفاصيله ، فإن كل إنسان يولد لا يعلم شيئا ، كما قال سبحانه :( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )النحل/78 .

وهذه هي الهداية بالفعل .

أو يكون المقصود : حال الناس قبل بعثة الرسل ، حيث كانوا في جاهلية وعمى ، فهداهم الله تعالى.

وهذه أقوال أهل العلم في بيان ما تقدم .

قال النووي في "شرح مسلم" (16/132) :" قَوْلُهُ تَعَالَى (كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ) قَالَ الْمَازِرِيُّ ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمْ خُلِقُوا عَلَى الضَّلَالِ إِلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ"  كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ " ، قَالَ فَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ وَصْفَهُمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنَّهُمْ لَوْ تُرِكُوا وَمَا فِي طِبَاعِهِمْ مِنْ إِيثَارِ الشَّهَوَاتِ وَالرَّاحَةِ وَإِهْمَالِ النَّظَرِ لَضَلُّوا ، وَهَذَا الثَّانِي أَظْهَرُ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ أَصْحَابِنَا وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْمُهْتَدِيَ هُوَ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وبهدي اللَّهُ اهْتَدَى وَبِإِرَادَةِ اللَّهِ " انتهى.

وقال أبو العباس القرطبي في "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" (6/552) :" وقوله: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته . قيل في معناه قولان: أحدهما: أنهم لو تركوا مع العادات ، وما تقتضيه الطباع من الميل إلى الراحات ، وإهمال النظر المؤدي إلى المعرفة لغلبت عليهم العادات والطباع فضلوا عن الحق ، فهذا هو الضلال المعني ، لكن من أراد الله تعالى توفيقه ألهمه إلى إعمال الفكر المؤدي إلى معرفة الله تعالى ، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وأعانه على الوصول إلى ذلك ، وعلى العمل بمقتضاه ، وهذا هو الهدى الذي أمرنا الله بسؤاله .

وثانيهما: أن الضلال هاهنا يعني به: الحال التي كانوا عليها قبل إرسال الرسل من: الشرك ، والكفر ، والجهالات ، وغير ذلك ، كما قال تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ أي: على حالة واحدة من الضلال والجهل ، فأرسل الله الرسل ليزيلوا عنهم ما كانوا عليه من الضلال ، ويبين لهم مراد الحق منهم في حالهم ، ومآل أمرهم ، فمن نبهه الحق سبحانه وتعالى ، وبصره ، وأعانه فهو المهتدي ، ومن لم يفعل الله به ذلك بقي على ذلك الضلال .

وعلى كل واحد من التأويلين فلا معارضة بين قوله تعالى: كلكم ضال إلا من هديته وبين قوله: كل مولود يولد على الفطرة  ، لأنَّ هذا الضلال المقصود في هذا الحديث هو الطارئ على الفطرة الأولى المغير لها ، الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم بالتمثيل في بقية الخبر حيث قال: كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء. وبقوله: خلق الله الخلق على معرفته فاجتالتهم الشياطين " انتهى.

وقال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (4/245) :" قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ فَالصَّوَابُ أَنَّهَا فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا وَهِيَ فِطْرَةُ الْإِسْلَامِ وَهِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا يَوْمَ قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى . وَهِيَ السَّلَامَةُ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الْبَاطِلَةِ ، وَالْقَبُولُ لِلْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ ...

وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ مَوْلُودِينَ عَلَى الْفِطْرَةِ أَنْ يَكُونُوا حِينَ الْوِلَادَةِ مُعْتَقِدِينَ لِلْإِسْلَامِ بِالْفِعْلِ،  فَإِنَّ اللَّهَ أَخْرَجَنَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِنَا لَا نَعْلَمُ شَيْئًا ، وَلَكِنْ سَلَامَةُ الْقَلْبِ وَقَبُولُهُ وَإِرَادَتُهُ لِلْحَقِّ: الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ بِحَيْثُ لَوْ تُرِكَ مِنْ غَيْرِ مُغَيِّرٍ ، لَمَا كَانَ إلَّا مُسْلِمًا.

وَهَذِهِ الْقُوَّةُ الْعِلْمِيَّةُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي تَقْتَضِي بِذَاتِهَا الْإِسْلَامَ مَا لَمْ يَمْنَعْهَا مَانِعٌ: هِيَ فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا " انتهى .

وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/662) :" وقوله: ( كُلُّكم ضالٌّ إلاَّ مَنْ هديتُه ) قد ظنَّ بعضُهم أنَّه معارض لِحديث عياض بنِ حمار، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:( يقولُ اللهُ - عز وجل -: خلقتُ عبادي حنفاء ، وفي روايةٍ: مسلمين فاجتالتهم الشياطين )

وليس كذلك ، فإنَّ الله خلق بني آدم ، وفطرهم على قبول الإسلام ، والميل إليه دونَ غيره ، والتهيؤ لذلك ، والاستعداد له بالقوَّة ، لكن لابدَّ للعبد من تعليم الإسلام بالفعل ، فإنَّه قبل التعليم جاهلٌ لا يعلم شيئاً ، كما قال - عز وجل -: وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ ... شَيْئاً ، وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ، والمراد: وجدَك غيرَ عالمٍ بما علَّمك من الكتاب والحكمة ، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ .

فالإنسان يولد مفطوراً على قبول الحقِّ ، فإنْ هداه الله سبَّب له من يعلمه الهدى ، فصار مهتدياً بالفعل بعد أنْ كان مهتدياً بالقوَّة ، وإنْ خذله الله ، قيَّض له من يعلمه ما يُغير فطرته كما قال - صلى الله عليه وسلم -:( كلُّ مولودٍ يُولد على الفطرة ، فأبواه يهوِّدانه ويُنصرانه ويمجسانه ) انتهى.

فتبين مما سبق أنه لا تعارض بين الحديثين . 

ومن أراد الاستزادة يمكنه مراجعة جواب السؤال رقم : (199420) .

والله تعالى أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب