الحمد لله.
خلق الله آدم من تراب، وخلق نسله من ماء مهين، وهو النطفة، كما قال تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ السجدة/7، 8
وقال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ الطارق/5-7.
وهذا أمر مقطوع به، معلوم بالشرع والطب، فبداية تكون الإنسان هو من نطفة الرجل وبويضة المرأة، فإذا حصل التلقيح، نتجت أول خلية للإنسان (زيجوت)، إلى أن تصير علقة، ثم مضغة، ثم تصير المضغة عظما، وهو عجب الذنب، ومنه تنبت بقية عظامه.
قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ المؤمنون/12- 14
وهذا موافق للحديث الصحيح، وهو ما رواه البخاري (4935)، ومسلم (2955) ، واللفظ له، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرَابُ، إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ، وَفِيهِ يُرَكَّبُ.
قال الشيخ الهرري، رحمه الله في "الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (26/ 325): " (منه) أي من عجب الذنب (خلق)؛ أي: بدء خلقه في البداية (وفيه) أي وفي عجب الذنب (يركب) خلقه عند الإعادة.
قال الباجي: وهو أول ما خُلق من بني آدم، وهو الذي يبقى ليعاد تركيب الخلق عليه اهـ" انتهى.
والمقصود أن هذا العظم هو أول عظم ينشأ في الإنسان، ومنه تتفرع العظام التي تشكل بدنه، وذلك بعد النطفة والعلقة والمضغة؛ فالأولية المذكورة هنا نسبية؛ أي: أول ما يظهر تخلقه من الآدمي، لا الأولية المطلقة، فهذه للتراب الذي خلق منه آدم، عليه السلام، أو النطفة – الماء المهين – الذي خلق منه بنوه.
ولأجل ذلك لم يستشكل العلماء هذا الحديث، مع خلق الإنسان من طين، أو من النطفة، لأجل ما تقرر أن المراد بهذا الحديث: أول ما يتشكل من خلق الإنسان، وتركيبه. كما قال الله عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ المؤمنون/12-16
فتأمل ما وقع في هذه الآيات الكريمات، من ذكر النشأة الأولى لآدم عليه السلام، وخلقه من "طين"، الذي هو خلق لذريته كذلك من الطين، باعتبار أصل أبيهم، لا باعتبار خلقهم المباشر؛ فإنهم خلقوا بعد ذلك من النطفة المهينة، ثم مرت بأطوارها المذكورة في الآية الكريمة، إلى جعل الله "المضغة" عظاما؛ وهنا تبدأ المرحلة التي يتحدث عنها الحديث؛ فإن أول ما خلق من هذه "العظام" هو "عجب الذنب"، ثم ركب عليه خلق الإنسان، إلى أن تكامل خلقه، واستبانت صورته: ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) .
قال ابن كثير، رحمه الله:
"يقول تعالى مخبرا عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين، وهو آدم، عليه السلام، خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون.
وقال الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن أبي يحيى، عن ابن عباس: من سلالة من طين قال: صفوة الماء.
وقال مجاهد: من سلالة أي: من مني آدم.
قال ابن جرير: وإنما سمي آدم طينا؛ لأنه مخلوق منه.
وقال قتادة: استل آدم من الطين.
وهذا أظهر في المعنى، وأقرب إلى السياق، فإن آدم، عليه السلام، خلق من طين لازب، وهو الصلصال من الحمأ المسنون، وذلك مخلوق من التراب، كما قال تعالى: ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون [الروم: 20] ...
ثم جعلناه نطفة : هذا الضمير عائد على جنس الإنسان، كما قال في الآية الأخرى: وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين [السجدة: 7، 8]، أي: ضعيف، كما قال: ألم نخلقكم من ماء مهين. فجعلناه في قرار مكين، يعني: الرحم معد لذلك مهيأ له، إلى قدر معلوم * فقدرنا فنعم القادرون [المرسلات: 22، 23] ، أي: إلى مدة معلومة وأجل معين، حتى استحكم وتنقل من حال إلى حال، وصفة إلى صفة؛ ولهذا قال هاهنا: ثم خلقنا النطفة علقة أي: ثم صيرنا النطفة، وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل -وهو ظهره-وترائب المرأة-وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى الثندوة-فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة. قال عكرمة: وهي دم.
فخلقنا العلقة مضغة: وهي قطعة كالبضعة من اللحم، لا شكل فيها ولا تخطيط.
فخلقنا المضغة عظاما: يعني: شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها..
قال ابن عباس: وهو عظم الصلب.
وفي الصحيح، من حديث أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كل جسد ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق، ومنه يركب ) .
فكسونا العظام لحما أي: وجعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه.
ثم أنشأناه خلقا آخر أي: ثم نفخنا فيه الروح، فتحرك وصار خلقا آخر؛ ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب فتبارك الله أحسن الخالقين. ". انتهى، من "تفسير ابن كثير" (5/465-466).
ثم إن الآيات الكريمة تحدثت بعد ذلك عن موت الإنسان، ثم بعثه، وهو نفس ما ألمح إليه الحديث، مع زيادة بيان لمبدأ هذا البعث، من أي شيء يكون؛ فبين أنه يكون من "عجب الذنب"؛ وفي السورة الأخرى إشارة إلى ذلك المعنى أيضا: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ الأنبياء/104
قال ابن عبد البر، رحمه الله: " "وأمّا قَوْلُهُ : ( مِنهُ خُلِقَ وفِيهِ يُرَكَّبُ ) : فَيَدُلُّ عَلى أنَّهُ ابْتُدِأ خَلْقُهُ وتَرْكِيبُهُ مِن عَجْبِ ذَنَبِهِ ، واللَّهُ أعْلَمُ .
وهَذا لا يُدْرَكُ إلّا بِخَبَرٍ، ولا خَبَرَ فِيهِ عِنْدَنا مُفَسَّرٌ، وإنَّما هِيَ جُمْلَةُ ما جاءَ فِي هَذا الخَبَرِ...
وفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ : ( وفِيهِ يُرَكَّبُ ) : إيمانٌ بِالبَعْثِ ، والنشأة الأخرى".
"التمهيد" (18/174).
والله أعلم.
تعليق