الحمد لله.
حفظ القرآن وتلاوته من أعظم العبادات والقربات وقد رتب الله عليه الأجر العظيم والمنزلة العالية في الجنة.
ولا شك أنه يحصل بحفظه زيادة على الأجر الكثير من المصالح والفوائد المترتبة على حفظه وتلاوته كحصول السكينة النفسية واكتساب المهارات اللغوية وسلامة التفكير وغيرها.
وهذه المصالح إذا نوى الإنسان أن تحصل له عند حفظ القرآن، مع نية حصول الأجر والثواب: فهذا أمر مشروع، ولا شيء فيه، وهو من فضل الله الذي يجمع بالعبادة لعباده المصالح الدنيوية والأخروية.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَن سرَّه أن يُبسط له في رزقه ، أو يُنسأ له في أثره ، فليصِل رحِمَه رواه البخاري ( 1961 ).
وقال صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه وقد جاءه يسأله مهر زوجته ، فقال: مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ ، وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ، قَالَ : فَبَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِى عَبْسٍ ، بَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ. رواه مسلم (3551) ،
فقد وعده النبي صلى الله عليه وسلم: أنه إذا حضرت غزوة، سوف يبعثه فيها، لعله يحصل له من غنائمها، ما يستعين به على مهره، وهذا جمع ظاهر بين نية الجهاد، لنشر التوحيد، ولتكون كلمة الله هي العليا، والخروج في ذلك البعث لتحصيل الرزق .
– وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – عام حنين – : من قتل قتيلا له عليه بيّنة: فله سلَبه رواه البخاري ( 2973 )، ومسلم ( 1751 ).
و(السلب) هو ما على المقاتل من ثياب وسلاح ونحو ذلك.
جاء في “تهذيب الفروق، والقواعد السنية” للشيخ محمد بن علي المالكي، رحمه الله (3/36-37):
“الفرق بين قاعدة الرياء في العبادات، وبين قاعدة التشريك في العبادات، من حيث إن التشريك فيها لا يحرم بالإجماع، بخلاف الرياء فيها فيحرم:
هو أن التشريك فيها، لما كان بما جعله الله تعالى للمكلف في هذه العبادة، مما لا يرى ولا يبصر، كمن جاهد ليحصل طاعة الله بالجهاد، وليحصل السبايا والكُراع والسلاح، من جهة أموال العدو، وكمن حج وشرَّك في حجه غرضَ المتَّجر، بأن يكون جل مقصوده أو كله: السفر للتجارة خاصة، ويكون الحج إما مقصودا مع ذلك، أو غير مقصود، وإنما يقع تابعا اتفاقا. وكمن صام ليصح جسده، أو ليحصل زوال مرض من الأمراض التي تُداوَى بالصوم، بحيث يكون التداوي هو مقصودَه أو بعض مقصوده، والصوم مقصود مع ذلك. وكمن يتوضأ بقصد التبرُّد أو التنظيف=
لم يضره في عبادته، ولم يحرم عليه، بالإجماع؛ لأن جميع هذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخالق، بل هي تشريك أمور من المصالح ليس لها إدراك، ولا تصلح للإدراك ولا للتعظيم؛ فلا تقدح في العبادات؛ إذ كيف تقدح وصاحب الشرع قد أمر بها في قوله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء». أي: قاطع.
نعم إذا تجردت العبادة عن هذه الأغراض: زاد الأجر، وعظُم الثواب. وإذا لم تجرد العبادة عنها: نقص الأجر؛ وإن كان لا سبيل إلى الإثم والبطلان.” انتهى من “الفروق للقرافي” (3/ 36).
وقال أبو العباس القرطبي رحمه الله:
“فأما إذا كان الباعثُ عليها -أي العبادة-غير ذلك من أعراض الدُّنيا؛ فلا يكونُ عبادة، بل يكون مصيبة موبقة لصاحبها، فإما كفرٌ، وهو: الشرك الأكبر، وإما رياء، وهو: الشركُ الأصغر. ومصيرُ صاحبه إلى النار…
هذا إذا كان الباعثُ على تلك العبادة الغرضَ الدنيوي وحده، بحيث لو فُقِد ذلك الغرضُ، لتُرِك العمل.
فأما لو انبعث لتلك الحالة لمجموع الباعثَينِ- باعث الدنيا وباعث الدين-؛ فإن كان باعثُ الدنيا أقوى، أو مساويًا: فالحكم بإبطال ذلك، عند أئمة هذا الشأن، وعليه يدل قولُه -صلى الله عليه وسلم- حكاية عن الله تبارك وتعالى: (مَن عَمِل عملًا أشركَ معي فيه غيري تركتُه وشريكه).
فأما لو كان باعثُ الدِّين أقوى؛ فذهب الجمهور إلى القول بصحة ذلك العمل، ويُستدلُ على هذا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن من خير معايش الناس رجلا ممسكا فرسه في سبيل الله)، فجعل الجهاد مما يصح أن يُتخذ للمعاش، ومن ضرورة ذلك أن يكونَ مقصودًا، لكن لما كان باعثُ الدِّين على الجهاد هو الأقوى والأغلب، كان ذلك الغرض مُلغى، فيكون معفُوًّا عنه؛ كما إذا توضأ قاصِدًا رَفع الحدث والتبرُّد.
فأما لو تفرَّد باعثُ الدِّين بالعمل، ثم عرض باعث الدنيا في أثناء العمل: فأولى بالصحة” انتهى باختصار يسير من “المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم” (3/ 742).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
“الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين حسنى الدنيا، وحسنى الآخرة: فلا شيء عليه في ذلك؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}. وهذا ترغيب في التقوى بأمر دنيوي” انتهى من “مجموع فتاوى ورسائل العثيمين” (2/ 208).
وقال رحمه الله أيضا:
“أن يقصد بها -العبادة-التقرب إلى الله – تعالى – والغرض الدنيوي الحاصل بها مثل أن يقصد مع نية التعبد لله – تعالى – بالطهارة: تنشيط الجسم وتنظيفه، وبالصلاة تمرين الجسم وتحريكه، وبالصيام تخفيف الجسم وإزالة فضلاته، وبالحج مشاهدة المشاعر والحجاج فهذا ينقص أجر الإخلاص.
ولكن: إن كان الأغلب عليه نية التعبد فقد فاته كمال الأجر، ولكن لا يضره ذلك باقتراف إثم أو وزر لقوله – تعالى – في الحجاج: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}.
وإن كان الأغلب عليه نية غير التعبد: فليس له ثواب في الآخرة، وإنما ثوابه ما حصله في الدنيا، وأخشى أن يأثم بذلك، لأنه جعل العبادة التي هي أعلى الغايات وسيلة للدنيا الحقيرة…،
وإن تساوى عنده الأمران: فلم تغلب نية التعبد ولا نية غير التعبد، فمحل نظر، والأقرب أنه لا ثواب له” انتهى مختصراً من ” مجموع فتاوى ورسائل العثيمين” (1/ 98).
وأما إذا نوى بحفظ القرآن مجرد محاربة الضعف العقلي، دون استحضار فضيلة حفظ القرآن وتلاوته، واحتساب الأجر في ذلك: فهذا ليس له إلا ما نوى، مع ترتب الإثم على تمحض إرادة الدنيا بعمل الآخرة.
قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
قال ابن جرير الطبري: ” مَنْ عَمِلَ صَالِحًا الْتِمَاسَ الدُّنْيَا، صَوْمًا أَوْ صَلَاةً أَوْ تَهَجُّدًا بِاللَّيْلِ، لَا يَعْمَلُهُ إِلَّا لِالْتِمَاسِ الدُّنْيَا؛ يَقُولُ اللَّهُ : أُوَفِّيهِ الَّذِي الْتَمَسَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَثَابَةِ ، وَحَبِطَ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ الْتِمَاسَ الدُّنْيَا ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ” انتهى من ” تفسير الطبري” (12/347).
وقد مر في تفصيل الصور، من كلام أهل العلم: ما يؤيد ذلك، أيضا.
ومما سبق ذكره من النصوص وكلام أهل العلم يتبيّن أنّه إذا نوى التعبد لله بحفظ القرآن، ومحاربة الضعف العقلي فلا شيء عليه.
وإن نوى مجرد محاربة الضعف العقلي فقط، ولا فرق عنده بين أن تكون هذه المحاربة بالقرآن أو غيره: فله ما نوى، وقد يدخل في بقع في الإثم.
وينظر جواب السؤال (228454)
والله أعلم.
تعليق