الحمد لله.
الله عز وجل يفرح بتوبة العبد فرحاً شديدا
ثبت فرح الله جل جلاله بطاعة عظيمة من أجل طاعات العباد التي لا غنى لهم عنها في هذه الحياة، ولا قوام لهم بدونها، وهي التوبة إلى الرحمن الرحيم جل جلاله، من الذنوب والخطايا. فروى البخاري (6308)، ومسلم (2747) واللفظ له، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ .
قال ابن القيم، رحمه الله: " ولو كان في المفروح به أعلى من هذا المثال لذكره؛ فتأمل سائرا وحده بأرض مَفازة مَعْطَشَة، لا ماء بها ولا زاد، ضلت راحلته فيها، فاشتد جوعه وظمأه، فأيس من الحياة، فاضطجع في أصل شجرة ينتظر الموت، ثم استيقظ؛ فإذا الراحلة قائمة على رأسه وعليها طعامه وشرابه، كما جاء ذلك مصرحا به في بعض طرق هذا الحديث؛ فهل في الفرح قط أعظم من هذا؟
ولهذا الفرح بتوبة العبد سر أكثر الخلق محجوبون عنه لا تبلغه عقولهم، وبه يُعرف سرُّ تقدير ما يُتاب منه على العبد، لأنه يترتب عليه ما هو أحب إلى الرب سبحانه من عدمه؛ فلو لم يكن في تقدير الذنب من الحكم إلا هذه وحدها، لكانت كافية؛ فكيف وفيه من الحكم ما لا يحصيه إلا الله مما ليس هذا موضعه" انتهى من "الصواعق المرسلة"(4/1461).
وقال الشيخ عبد العزيز السلمان، رحمه الله:
" هذا حديث جليل فيه بشارة عظيمة ترتاح لها قلوب التائبين المحسنين ظنهم بربهم، الصادقين في توبتهم، الخالعين ثياب الإصرار على المعاصي البعيدين عن سوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده الطالبين لعفوه المتلجئين إليه، في مغفرة ذنوبهم وحصول مطلوبهم.
روى هذا الحديث جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة، والبراء بن عازب، والنعمان بن بشير، وأنس...
فهذا الفرح منه بتوبة التائب، يناسب محبته له ومودته له؛ فهذا الكشف والبيان والإيضاح لا مزيد عليه في ثبوت هذه الصفة، ونفي الإجمال والاحتمال.
وفرحته تعالى بتوبة عبده لأن رحمته سبقت غضبه، وكل ما كان من صفة الرحمة فهو غالب لما كان من صفة الغضب؛ فإنه سبحانه رحيم، ورحمته من لوازم ذاته كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وإحسانه، فيستحيل أن يكون على خلاف ذلك، وليس كذلك غضبه، فإنه ليس من لوازم ذاته، ولا يكون غضباناً دائماً غضباً لا يتصور انفكاكه. ورحمته وسعت كل شيء، وغضبه لم يسع كل شيء، وهو سبحانه كتب على نفسه الرحمة، ولم يكتب على نفسه الغضب، ووسع كل شيء رحمة وعلماً، ولم يسع كل شيء غضباً وانتقاماً.
ففي الحديث:
- إثبات الألوهية.
- صفة الفرح.
- الحث على التوبة.
- فضل التوبة.
- أن الله يقبل توبة العبد إذا وقعت على الوجه المشروع.
- متمسك لمن قال: إن للقاتل توبة.
- دليل على البعث والحساب والجزاء على الأعمال" انتهى من "الكواشف الجلية(1/343).
وقال الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله:
" والحديث أن هذا الرجل كان معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فضلَّت عنه، فذهب يطلبها، فلم يجدها، فأيس من الحياة، ثم اضطجع تحت شجرة ينتظر الموت؛ فإذا بخطام ناقته متعلقًا بالشجرة ... ولا أحد يستطيع أن يقدر هذا الفرح؛ إلا من وقع فيه ... فأمسك بخطام الناقة، وقال: اللهمَّ! أنت عبدي، وأنا ربك؛ أخطأ من شدة الفرح؛ لم يملك كيف يتصرَّف في الكلام!!
فالله عزَّ وجلَّ أفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه من هذا الرجل براحلته، وليس الله عزَّ وجلَّ بمحتاج إلى توبتنا، بل نحن مفتقرون إليه في كل أحوالنا، لكن لكرمه جل وعلا ومحبته للإحسان والفضل والجود يفرح هذا الفرح الذي لا نظير له بتوبة الإنسان إذا تاب إليه.
فرح الله سبحانه فرح حقيقي وليس كفرح المخلوقين
* في هذا الحديث: إثبات الفرح لله عزَّ وجلَّ؛ فنقول في هذا الفرح: إنه فرح حقيقي، وأشد فرح، ولكنه ليس كفرح المخلوقين.
الفرح بالنسبة للإنسان هو نشوة وخفة يجدها الإنسان من نفسه عند حصول ما يسرُّه، ولهذا تشعر بأنك إذا فرحت بالشيء كأنك تمشي على الهواء، لكن بالنسبة لله عزَّ وجلَّ لا نفسِّر الفرح بمثل ما نعرفه من أنفسنا؛ نقول: هو فرح يليق به عزَّ وجلَّ؛ مثل بقية الصفات؛ كما أننا نقول: لله ذات، ولكن لا تماثل ذواتنا؛ فله صفات لا تماثل صفاتنا؛ لأن الكلام عن الصفات فرع عن الكلام في الذات.
فنؤمن بأن الله تعالى له فرح كما أثبت ذلك أعلم الخلق به، محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق فيما ينطق به عليه الصلاة والسلام.
ونحن على خطر إذا قلنا: المراد بالفرح الثَّواب؛ لأن أهل التحريف يقولون: إن الله لا يفرح، والمراد بفرحه: إثابته التائب، أو: إرادة الثواب؛ لأنهم هم يثبتون أن لله تعالى مخلوقًا بائنًا منه هو الثواب، ويثبتون الإرادة؛ فيقولون في الفرح: إنه الثواب المخلوق، أو: إرادة الثواب.
ونحن نقول: المراد بالفرح: الفرح حقيقة؛ مثلما أن المراد بالله عزَّ وجلَّ: نفسه حقيقة، ولكننا لا نمثل صفاتنا بصفات الله أبدًا.
* ويستفاد من هذا الحديث مع إثبات الفرح لله عزَّ وجلَّ: كمال رحمته جلَّ وعلا ورأفته بعباده؛ حيث يحب رجوع العاصي إليه هذه المحبة العظيمة ... هارب من الله، ثم وقف ورجع إلى الله ... يفرح الله به هذا الفرح العظيم.
* هي ومن الناحية المسلكية: يفيدنا أن نحرص على التوبة غاية الحرص، كلما فعلنا ذنبًا؛ تبنا إلى الله. قال الله تعالى في وصف المتقين: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً؛ أي فاحشة؛ مثل: الزنى، واللواط، ونكاح ذوات المحارم ... قال الله تعالى: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء: 22]، وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32] وقال لوط لقومه: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ [الأعراف: 80].
إذًا؛ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ؛ ذكروا الله تعالى في نفوسهم؛ ذكروا عظمته، وذكروا عقابه، وذكروا ثوابه للتائبين؛ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ؛ فعلوا ما فعلوا؛ لكنهم ذكروا الله تعالى في نفوسهم، واستغفروا لذنوبهم، فيغفر الله لهم، والدليل: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا اللَّهُ [آل عمران: 135].
فأنت إذا علمت أن الله يفرح بتوبتك هذا الفرح الذي لا نظير له؛ لا شك أنك سوف تحرص غاية الحرص على التوبة" انتهى من"شرح العقيدة الواسطية" (2 /19-21).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم:(286106).
ولم نقف على عمل آخر من أعمال العباد، ذكر أن الله تعالى يفرح به – بخصوصه – سوى التوبة.
الله عز وجل يفرح بطاعة الطائعين
لكن يقال هنا: كما أن الله تعالى يفرح بهذه الطاعة العظيمة، ذلك الفرح العظيم الذي لا يشبهه فرح، وضرب له ذلك المثل البليغ؛ فكذلك سبحانه يفرح بطاعة الطائعين، وإحسان المحسين، وإخبات المخبتين؛ وهكذا في كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم:(26242)، و(21374).
وننصحك بالإكثار من النظر والمدارسة لكتاب: رياض الصالحين، للإمام النووي، رحمه الله تعالى، ففيه خير عظيم، ومن شأنك أن يدلك على تفاصيل أبواب عظيمة من الخير والبر، تستطيع أن تأخذ بها، وتعملها.
والله أعلم.
تعليق