الحمد لله.
أولا: التعليق على صحة الخبر
هذا الخبر أورده ابن عساكر، حيث قال رحمه الله تعالى:
" ... حديث أبي يوسف عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن أبيه أو عن غيره، قال:
لما بلغ عمرو بن العاص بيعة الناس عليا دعا ابنيه عبد الله ومحمد، واستشارهما:
فقال له عبد الله بن عمرو: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي وهو عنك راض، وصحبت أبا بكر وعمر، فتوفيا وهما عنك راضيان، ثم صحبت عثمان فقتل وهو عنك راض، فأرى أن تلزم بيتك فهو أسلم لدينك.
فقال له محمد: أنت شريف من أشراف العرب وناب من أنيابها، لا أرى أن تختلف العرب في جسيم أمورها لا يرى مكانك.
قال فقال لعبد الله: أما أنت فأشرت علي ما هو خير لي في آخرتي، وأما أنت يا محمد فأشرت علي بما هو أنبه لذكري. ارتحِلا .
فارتحلا إلى معاوية، فأتى رجلا قد عاد المرضى، ومشى بين الأعراض، يقص على أهل الشام غدوة وعشية، يا أهل الشام: إنكم على خير وإلى خير، تطلبون بدم خليفة قتل مظلوما، فمن عاش منكم فإلى خير، ومن مات منكم فإلى خير.
فقال عبد الله بن عمرو: ما أرى الرجل إلا قد انقطع بالأمر دونك.
فقال له: دعني وإياه.
ثم إن عمرا قال لمعاوية ذات يوم: يا معاوية؛ أحرقت كبدي بقصصك، أترى أنا خالفنا عليا لفضل منا عليه، لا والله؛ إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، وأيم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك، أو لأنابذنك؟ فقال فأعطاه مصر " انتهى من "تاريخ دمشق" (46 / 166 – 167).
وهذا الخبر من رواية ابن إسحاق، وهو موصوف بالتدليس، وعدّه الحافظ ابن حجر في الطبقة الرابعة من المدلسين، وهم الذين اتُّفِق على أن لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع، لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي، المدني، صاحب المغازي، صدوق مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين، وعن شر منهم، وصفه بذلك أحمد والدارقطني وغيرهما" انتهى من "تعريف أهل التقديس" (ص 51).
وهو في هذا الخبر لم يصرح بالتحديث، فلم يقل حدثنا أو أخبرنا أو سمعت "عبد الله بن عروة، بل قال: "عن عبد الله بن عروة".
كما أن صاحب الخبر مجهول، حيث قال: " عن أبيه أو عن غيره ".
فالحاصل: أن هذا إسناد ضعيف.
ثانيا: سبب خلاف معاوية وعمرو بن العاص مع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين
ما كان فيه معاوية وعمرو من اختلاف مع علي رضي الله عنهم أجمعين، إنما هو لمطالبتهما بحق دم عثمان رضي الله عنه، وإقامة القصاص على قتلته، ودفع شرهم، وهذا أمر دنيوي مأذون به شرعا.
قال الله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا الإسراء/33.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" لما رأى علي رضي الله عنه وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته، إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة؛ رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة.
وهم – أي معاوية وأصحابه - قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلوما باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا. وعلي لا يمكنه دفعهم، كما لم يمكنه الدفع عن عثمان؛ وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر على أن ينصفنا، ويبذل لنا الإنصاف " انتهى من "مجموع الفتاوى " ( 35 / 72-73 ) .
وقال أيضا:
"... لكن قاتلوا مع معاوية لظنهم أن عسكر علي فيه ظلمة – يعني قتلة عثمان - يعتدون عليهم كما اعتدوا على عثمان ، وأنهم يقاتلونهم دفعا لصيالهم عليهم.... " انتهى من "منهاج السنة" (4 / 383).
وكذا طلب عمرو للإمارة؛ فلعله رأى في نفسه الأهليه لها؛ لما وهبه الله تعالى من قوة في الرأي والعزيمة، ولما له من التجربة في الإمارة، فقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة، وولاه الخلفاء الراشدون من بعده.
فهذا أمر من أمور الاجتهاد، ولعله تأسى بقصة يوسف عليه السلام.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" يوسف عليه السلام : إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه، فإنه لم يكن هناك غيره، وهكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة، ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه، لتعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك، كما قال يوسف عليه السلام، فأما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها وعلم بذلك فالأولى ألا يطلب " انتهى من "تفسير القرطبي" (11 / 385).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وأما سؤال الولاية، فقد ذمه صلى الله عليه وسلم.
وأما سؤال يوسف وقوله: ( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ ) : فلأنه كان طريقا إلى أن يدعوهم إلى الله، ويعدل بين الناس، ويرفع عنهم الظلم، ويفعل من الخير مالم يكونوا يفعلوه، مع أنهم لم يكونوا يعرفون حاله، وقد علم بتعبير الرؤيا ما يؤول إليه حال الناس، ففي هذه الأحوال ونحوها ما يوجب الفرق بين مثل هذه الحال وبين ما نهى عنه " انتهى من "مختصر الفتاوى المصرية" (ص 564).
ومما يدل على أن عمرو بن العاص رضي الله عنه كان يتصرف في أموره باجتهاد ولم يتعمد الوقوع في المنهيات، هو ما قاله عند موته:
" ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا" .
حيث روى الإمام مسلم (121) عَنِ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ، قَالَ:
" حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، يَبَكِي طَوِيلًا، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟ قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي، وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ، فَقَتَلْتُهُ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي.
قَالَ: مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟
قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.
قَالَ: (تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟)
قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي.
قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟
وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ، وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي".
والله أعلم.
تعليق