الاثنين 24 جمادى الأولى 1446 - 25 نوفمبر 2024
العربية

تفسير قوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال)

343082

تاريخ النشر : 07-01-2021

المشاهدات : 15538

السؤال

كيف نكون كائنات عاقلة؟ وقد عرض الله الأمانة على غيرنا من المخلوقات فأبين أن يحملنها؟ فهل هذا من العقل في شيء؟ هل هذا أفضل قرار يمكن أخذه؟ وقال الله تعالى : (إنه كان ظلوماً جهولا)، كيف نكون عاقلين ونصنع مثل هذا القرار؟ فوالله أصبحت في حالة "ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً "، بدلاً من كثرة المعتقدات الفكرية وتضاربها ووجودي في زمن لا أجد سوى أنه زمن الفتنة، فتجد دائماً ما يزيحك عن الطريق ببضع الملليمترات التي تخشى أن تفاجئ فيما بعد أنها أزاحتك ملايين الكيلومترات.

الحمد لله.

أولا: معنى الأمانة في قول الله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة) 

قال الله تعالى:  إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا  الأحزاب/72.

واختلف في الأمانة على أقوال، والجمهور على أنها الفرائض ، أو الأوامر والنواهي والتكاليف الشرعية.

قال ابن الجوزي رحمه الله: " قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ فيها قولان:

أحدهما: أنها الفرائض، عرضها الله على السّماوات والأرض والجبال، إِن أدَّتها أثابها، وإِن ضيَّعَتْها عذَّبها، فكرهتْ ذلك، وعرضها على آدم فقَبِلها بما فيها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وكذلك قال سعيد بن جبير: عُرضت الأمانة على آدم فقيل له: تأخذها بما فيها، إِن أطعتَ غفرتُ لك، وإِن عصيتَ عذَّبتُك، فقال: قَبِلتُ، فما كان إِلاَّ كما بين صلاة العصر إِلى أن غَرَبت الشمس؛ حتى أصاب الذَّنْب. وممن ذهب إِلى أنها الفرائض قتادة والضحاك والجمهور.

والثاني: أنها الأمانة التي يأتمن الناس بعضهم بعضاً عليها ...

كلام المفسرين في المراد بعرض الأمانة على السماوات والأرض ..

وللمفسرين في المراد بعَرْض الأمانة على السّماوات والأرض قولان:

أحدهما: أن الله تعالى ركَّب العقل في هذه الأعيان، وأفهمهنَّ خطابه، وأنطقهنَّ بالجواب حين عرضها عليهنَّ. ولم يُرد بقوله: أبَيْنَ المخالَفَة، ولكنْ أَبَيْنَ للخَشية والمخافة، لأن العَرْض كان تخييراً لا إِلزاماً، و أشفقن بمعنى خِفْنَ منها أن لا يؤدِّينَها فيلحقهنَّ العقاب، هذا قول الأكثرين.

والثاني: أن المراد بالآية: إنّا عرضنا الأمانة على أهل السّماوات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة، قاله الحسن.

وفي المراد بالإِنسان أربعة أقوال: أحدها: آدم، في قول الجمهور.

والثاني: قابيل في قول السدي.

والثالث: الكافر والمنافق، قاله الحسن.

والرابع: جميع الناس، قاله ثعلب.

قوله تعالى: (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا) فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: ظَلوماً لنفسه، غِرّاً بأمر ربِّه، قاله ابن عباس، والضحاك.

والثاني: ظَلوماً لنفسه، جَهولاً بعاقبة أمره، قاله مجاهد.

والثالث: ظَلوماً بمعصية ربِّه، جَهولاً بعقاب الأمانة، قاله ابن السائب.

وذكر الزجاج في الآية وجهاً يخالف أكثر الأقوال، وذكر أنَّه موافق للتفسير فقال: إِن الله تعالى ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمن السّموات والأرض والجبال على طاعته والخضوع له، فأمّا السموات والأرض فقالتا: أَتَيْنا طائِعِينَ ، وأعلَمنا أن من الحجارة ما يَهْبِط من خَشية الله، وأن الشمس والقمر والنجوم والجبال والملائكة يسجُدون لله، فعرَّفنا اللهُ تعالى أنَّ السماوات والأرض لم تحتمل الأمانة، لأنها أدَّتها، وأداؤها: طاعة الله وترك معصيته، وكلُّ من خان الأمانة فقد احتملها، وكذلك كلُّ من أثم فقد احتمل الإِثم، وكذلك قال الحسن: وحملها الإِنسان أي: الكافر والمنافق حَمَلاها، أي: خانا ولم يُطيعا، فأمّا من أطاع، فلا يقال: كان ظلوماً جهولاً " انتهى من "زاد المسير" (3/ 487).

ثانيا: المقصود بقوله تعالى : (وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا)

الإنسان عاقل ، لكنه حمل الأمانة لظلمه لنفسه ، وجهله بالعاقبة، كما قال مجاهد.

وأما على قول الحسن والزجاج، فالكافر والمنافق هو الظالم لنفسه الجهول، وأما المؤمن فليس كذلك.

وهذا موافق لمن يقول: إن الأمانة لم يحملها الإنسان باختياره ، وإنما فطر عليها، وإن جملة (إنه كان ظلوما جهولا) ليست تعليلا، بل هي إخبار عن حال من لم يقم بالأمانة.

قال الطاهر ابن عاشور رحمه الله: "وجملة : ( إنه كان ظلوما جهولا ) : محلها اعتراض بين جملة وحملها الإنسان ، والمتعلق بفعلها ، وهو : ( ليعذب الله المنافقين ) [الأحزاب: 73] الخ. ومعناها استئناف بياني ، لأن السامعَ خبرِ أن الإنسان تحمل الأمانة ، يترقب معرفة ما كان من حسن قيام الإنسان بما حمله ، وتحمله، وليست الجملة تعليلية ؛ لأن تحمل الأمانة لم يكن باختيار الإنسان ؛ فكيف يعلل بأن حمله الأمانة من أجل ظلمه وجهله.

فمعنى : ( كان ظلوما جهولا ) : أنه قصر في الوفاء بحق ما تحمله ، تقصيرا: بعضه عن عمد، وهو المعبر عنه بوصف ظلوم، وبعضه عن تفريط في الأخذ.

والظلم: الاعتداء على حق الغير ، وأريد به هنا الاعتداء على حق الله الملتَزم له بتحمل الأمانة، وهو حق الوفاء بالأمانة.

والجهل: انتفاء العلم بما يتعين علمه، والمراد به هنا انتفاء علم الإنسان بمواقع الصواب فيما تحمل به، فقوله: ( إنه كان ظلوما جهولا ) : مؤذن بكلام محذوف يدل هو عليه ، إذ التقدير: وحملها الإنسان فلم يف بها ، إنه كان ظلوما جهولا، فكأنه قيل: فكان ظلوما جهولا، أي ظلوما، أي في عدم الوفاء بالأمانة ، لأنه إجحاف بصاحب الحق في الأمانة أيا كان، وجهولا في عدم تقديره قدر إضاعة الأمانة ، من المؤاخذة المتفاوتة المراتب في التبعة بها، ولولا هذا التقدير لم يلتئم الكلام ، لأن الإنسان لم يحمل الأمانة باختياره ، بل فطر على تحملها" انتهى من "التحرير والتنوير" (22/ 129).

وقد قال تعالى عقب هذه الآية:  لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا  الأحزاب/73.

فهذه عاقبة حمل الأمانة: انقسام الناس إلى منافق وكافر ومؤمن، ونجاة المؤمنين والحمد لله.

ثالثا: التكاليف التي كلف بها الإنسان ليس فيها حرج ولا مشقة

التكاليف التي كلف بها الإنسان سهلة يسيرة، ليس فيها حرج ولا مشقة، من إيمان وطهارة وصلاة وزكاة وصوم وحج ، وبر للوالدين وصلة للأرحام وغير ذلك. والثواب المرتب عليها عظيم جليل، بل إن الله تعالى يرتب الثواب الكبير جدا ، على العمل اليسير جدا، وإليك أمثلة من ذلك:

1-قال صلى الله عليه وسلم:  مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ أَوْ فَيُسْبِغُ الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ  رواه مسلم (234) من حديث عقبة بن عامر، رضي الله عنه.2-وقال صلى الله عليه وسلم: 

مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ : كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ .

وَمَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ : حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ 

.

رواه البخاري (3293)، ومسلم (2691)، واللفظ له، من حديث أبي هريرة.

فكن من الطائعين تسعد في دنياك وأخراك، وتدرك نعمة أن جعلك الله عبدا له، متقربا إليه، ثم ما هي إلا أيام وتنقضي حياة الإنسان ، بما فيها من كدر ومنغصات ، ليقدم على رب كريم رحيم ، أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

واعتصم بالقرآن والسنة، وأقبل عليهما ، قراءة وتعلما، ولا تلتفت لآراء الرجال ، واختلافاتهم واضطراباتهم، وتمسك بوصية النبي صلى الله عليه وسلم ففيها النجاة والمخرج من الفتن.

وروى أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (44) عن الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ:  أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ  " وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (3851) .

وأكثر من الدعاء بثبات القلب على الإيمان والهداية.

روى أحمد (12107)، والترمذي (2140) عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ:  يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ  ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ) وصححه الألباني في "صحيح الترمذي".

ثبتنا الله وإياك على طاعته ورزقا قلبا سليما، وعلما نافعا.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب