الحمد لله.
أولا:
روى البخاري (6047) ومسلم (110) عن ثَابِت بْن الضَّحَّاكِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلاَمِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ .
وروى أبو داود (3258)، والنسائي (3772)، وابن ماجه (2100) عن بُرَيْدَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَلَفَ فَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا .
وقوله: كاذبا أو صادقا: يحتمل معنيين:
الأول: أن ذلك في الخبر عن الماضي، كما لو قال: إن كان قد فعل كذا فهو يهودي، وكان قد فعله، فهذا كاذب في حلفه.
والثاني: أن يراد به: الكذب والصدق في حلف على مستقبل، كأن يقول: إن فعل كذا فهو يهودي، أو يقول: إن لم يفعل كذا، فهو يهودي.
قال ابن حجر رحمه الله في "الفتح" (11/ 538): " وأما قوله: (ومن حلف بغير ملة الإسلام) فوقع في رواية علي بن المبارك: (من حلف على ملة غير الإسلام) وفي رواية مسلم: (من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال) .
قال ابن دقيق العيد: الحلف بالشيء - حقيقة - هو القسم به وإدخال بعض حروف القسم عليه، كقوله: والله والرحمن.
وقد يطلق على التعليق بالشيء : يمينٌ، كقولهم: من حلف بالطلاق، فالمراد تعليق الطلاق، وأطلق عليه الحلف لمشابهته باليمين في اقتضاء الحث والمنع.
وإذا تقرر ذلك فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثاني، لقوله (كاذبا متعمدا)، والكذب يدخل القضية الإخبارية التي يقع مقتضاها تارة ولا يقع أخرى، وهذا بخلاف قولنا: والله وما أشبهه، فليس الإخبار بها عن أمر خارجي؛ بل هي لإنشاء القسم.
فتكون صورة الحلف هنا على وجهين:
أحدهما: أن يتعلق بالمستقبل، كقوله: إن فعل كذا فهو يهودي.
والثاني: يتعلق بالماضي، كقوله: إن كان فعل كذا فهو يهودي" انتهى.
فعلى الوجه الأول، الكذب ألا ينفذ ما حلف عليه، والصدق أن يأتي بما حلف عليه.
قال في "عون المعبود شرح أبي داود" (9/ 61):
" ( إِنِّي بَرِيء مِنْ الْإِسْلَام ) : أَيْ لَوْ فَعَلْت كَذَا أَوْ لَمْ أَفْعَلهُ .
( فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا ) : أَيْ فِي حَلِفه ... ( وَإِنْ كَانَ صَادِقًا ) : أَيْ فِي حَلِفه ، يَعْنِي مَثَلًا : حَلَفَ : إِنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا بَرِيء مِنْ الْإِسْلَام ، فَلَمْ يَفْعَل ؛ فَبَرَّ فِي يَمِينه .
( سَالِمًا ) : لِأَنَّ فِيهِ نَوْع اِسْتِخْفَاف بِالْإِسْلَامِ فَيَكُون بِنَفْسِ هَذَا الْحَلِف آثِمًا " انتهى .
ومن أهل العلم من جعل الصدق والكذب راجعا إلى تعظيم الملة الكافرة، فإن حلف وهو معظم لها، فهو صادق، وإن حلف غير معظم لها فهو كاذب.
قال القرطبي في "المفهم" (2/ 75): " وقوله: (كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا) يحتملُ أن يريدَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كان معتقدًا لتعظيمِ تلك المِلّةِ المغايرةِ لملَّةِ الإسلام ؛ وحينئذٍ : يكونُ كافرًا حقيقةً ، فيبقى اللفظُ على ظاهره.
و(كاذبًا): منصوبٌ على الحال ، أي : في تعظيمِ تلك المِلَّة التي حلَفَ بها، فتكونُ هذه الحالُ من الأحوالِ اللازمة؛ كما قال الله تعالى: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا ؛ لأنَّ مَنْ عظَّم مِلَّةً غيرَ الإسلام ، كان كاذبًا في تعظيمِهِ ذلك ، وآثمًا في كلِّ حالٍ وكلِّ وقتٍ ، لا ينتقلُ عن ذلك.
ولا يصلُحُ أن يقال : "إنَّه يعني بكونه كاذبًا في المحلوفِ عليه" ؛ لأنَّه يستوي في ذَمِّهِ كونُهُ صادقًا أو كاذبًا إذا حلَفَ بِمِلَّةٍ غيرِ الإسلام ؛ لأنَّه إنَّما ذمَّهُ الشرعُ مِنْ حيثُ إنَّه حَلَفَ بتلك الملَّةِ الباطلة ، معظِّمًا لها على نحوِ ما تعظَّمُ به ملَّةُ الإسلامِ الحَقِّ ؛ فلا فَرْقَ بين أن يكونَ صادقًا أو كاذبًا في المحلوفِ عليه" انتهى.
ثانيا:
لا يكفر في صورة الماضي إلا إن قصد تعظيم الملة الكافرة.
ولا يكفر في صورة المستقبل إلا إن أراد بتعليقه الخروج من الإسلام، فيكفر في الحال.
قال ابن حجر رحمه الله: "قال ابن دقيق العيد: ولا يكفر في صورة الماضي إلا إن قصد التعظيم. وفيه خلاف عند الحنفية، لكونه يتنجز معنى، فصار كما لو قال: هو يهودي.
ومنهم من قال: إن كان لا يعلم أنه يمين لم يكفر، وإن كان يعلم أنه يكفر بالحنث: به كفر؛ لكونه رضي بالكفر حين أقدم على الفعل.
وقال بعض الشافعية: ظاهر الحديث أنه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذبا.
والتحقيق: التفصيل؛ فإن اعتقد تعظيم ما ذُكر؛ كفر. وإن قصد حقيقة التعليق: فينظر؛ فإن كان أراد أن يكون متصفا بذلك: كفر؛ لأن إرادة الكفر كفر.
وإن أراد البعد عن ذلك: لم يكفر. لكن هل يحرم عليه ذلك، أو يكره تنزيها؟ الثاني: هو المشهور" انتهى.
وقال النووي رحمه الله في "الأذكار"، ص 359: " يحرمُ أن يقولَ: إن فعلتُ كذا فأنا يهوديّ أو نصراني، أو برئ من الإسلام، ونحو ذلك.
فإن قاله، وأرادَ حقيقة تعليق خروجه عن الإِسلام بذلك، صارَ كافراً في الحال، وجرتْ عليه أحكامُ المرتدّين.
وإن لم يُردْ ذلك لم يكفرْ، لكن ارتكبَ محرّماً، فيجبُ عليه التوبة، وهي أن يُقلعَ في الحال عن معصيته، ويندمَ على ما فعل، ويَعْزِمَ على أن لا يعودَ إليه أبداً، ويستغفر الله تعالى ويَقولُ: لا إِله إلاَّ الله محمدٌ رسولُ الله" انتهى.
وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الاتفاق على أنه لا يكفر في صورة المستقبل بمجرد وقوع الفعل، بل لا بد من قصد الكفر. قال رحمه الله :
"لَوْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا، أَوْ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فَلَا يَكْفُرُ، بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: إنْ أَعْطَيْتُمُونِي الدَّرَاهِمَ كَفَرْت، فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ ؛ بَلْ يُنَجَّزُ كُفْرُهُ [أي يكفر في الحال بمجرد هذا الكلام]؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ حُصُولَ الْكُفْرِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ" انتهى من " مجموع الفتاوى " (33/ 199).
والفرق بين الجملتين واضح، فإن قوله: إن فعل ذلك فهو يهودي، قد يريد به منع نفسه من الفعل، وأنه لا يفعله لكراهته له، ككراهته أن يكون يهوديا، بخلاف ما لو قال: إنْ أَعْطَيْتُمُونِي الدَّرَاهِمَ كَفَرْت، فهذا راض بالكفر، فيكفر في الحال.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: " وأما إذا التزم محرَّما مثل أن يقول : إن فعلت كذا فعلي إهانة المصحف ! ونحو ذلك : فهذا ليس له ذلك باتفاق العلماء ، وفي وجوب الكفارة النزاع المتقدم ؛ وكذلك إذا التزم حكماً لا يجوز التزامه، مثل قوله : إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني ، فهذا لا يجوز له التزام الكفر بوجه من الوجوه، ولو قصد ذلك لكان كافراً بالقصد" انتهى من "مجموع الفتاوى"( 33 / 203 ) .
ثالثا:
إذا حلف شخص بالكفر، إرادة للكفر، على أمر ما، ثم تاب وندم على ما قال، فإنه لا يكفر إذا فعل المحلوف عليه بعد ذلك؛ لأن الكفر هنا متعلق بقصد الكفر والرضى به، فإذا تاب من ذلك، زال قصد الكفر والرضا به؛ فإن أول شروط التوبة: الإقلاع عن الأمر المحرم الذي تاب عنه ؛ ومن ثم : يزول عنه الإثم، أو الكفر، بتوبته.
وأما حنثه في يمينه ، بعد توبته : فلأنه حكم معلق على شرط، أو سبب، متى تحقق، وقع ما عُلِّق عليه ؛ فهو من خطاب الوضع، وليس من خطاب التكليف؛ متى وجد السبب، أو الشرط، لزمه ما علق عليه، إلا إذا كان هذا الفعل المحلوف عليه حراما في نفسه.
رابعا:
إذا حلف بالكفر على أمر ماض كاذبا، فقد تقدم أنه لا يكفر إلا قصد تعظيم الكفر.
وهذا أظهر من قول بعض الحنفية إنه تنجيز في المعنى فيكفر في الحال.
قال ابن الهمام رحمه الله في "فتح القدير"(5/ 77): " (قوله: ولو قال إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني أو كافر يكون يمينا) فإذا فعله لزمه كفارة يمين قياسا على تحريم المباح فإنه يمين بالنص، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم مارية على نفسه ، فأنزل الله تعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك [التحريم: 1] ثم قال قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [التحريم: 2]. ووجه الإلحاق أنه لما جعل الشرط وهو فعل كذا عَلَما على كفره، ومعتقده حرمة كفره، فقد اعتقده: أي الشرط واجبَ الامتناع، فكأنه قال: حرمت على نفسي فعل كذا، كدخول الدار. ولو قال: دخول الدار مثلا علي حرام كان يمينا، فكان تعليق الكفر ونحوه على فعل مباح يمينا.
إذا عُرف هذا، فلو قال ذلك لشيء قد فعله، كأن قال: إن كنت فعلت كذا فهو كافر، وهو عالم أنه قد فعله، فهي يمين الغموس، لا كفارة فيها إلا التوبة.
وهل يكفر، حتى تكون التوبة اللازمة عليه: التوبة من الكفر، وتجديد الإسلام؟
قيل: لا، وقيل: نعم؛ لأنه تنجيز معنى؛ لأنه لما علقه بأمر كائن، فكأنه قال ابتداء: هو كافر. والصحيح: أنه إن كان يعلم أنه يمين فيه الكفارة، إذا لم يكن غموسا: لا يَكفُر.
وإن كان في اعتقاده أنه يكفُر به: يكفُر فيها؛ لأنه رضي بالكفر، حيث أقدم على الفعل الذي علق عليه كفره، وهو يعتقد أنه يكفُر إذا فعله.
واعلم أنه ثبت في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال ؛ فهذا يتراءى أعم من أن يعتقده يمينا، أو كفرا؟
والظاهر أنه أخرج مخرج الغالب، فإن الغالب ممن يحلف بمثل هذه الأيمان أن يكون من أهل الجهل، لا من أهل العلم والخير، وهؤلاء لا يعرفون إلا لزوم الكفر على تقدير الحنث.
فإن تم هذا، وإلا فالحديث شاهد لمن أطلق القول بكفره" انتهى.
والله أعلم.
تعليق