الحمد لله.
لم يقصد موسى عليه السلام قتل القبطي
قال الله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ، فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ القصص/15 – 19.
ليس في قصة موسى عليه السلام قصد القتل، لا للقبطي، ولا للإسرائيلي.
فقتله للقبطي كان خطئا، وإنما قصد دفعه ومنعه من ظلم الإسرائيلي، ولذا ندم على ما حصل من موته، كما في الآيات السابقة: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
روى مسلم (2905) عن ابْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، يَقُولُ: "يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ! مَا أَسْأَلَكُمْ عَنِ الصَّغِيرَةِ، وَأَرْكَبَكُمْ لِلْكَبِيرَةِ! سَمِعْتُ أَبِي عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ الْفِتْنَةَ تَجِيءُ مِنْ هَاهُنَا ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ ". وَأَنْتُمْ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا قَتَلَ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ، مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، خَطَأً، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ: وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا .
قال الشوكاني رحمه الله تعالى:
"فإن موسى عليه السلام ما زال نادما على ذلك، خائفا من العقوبة بسببه، حتى إنه يوم القيامة عند طلب الناس الشفاعة منه يقول: " إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها"، كما ثبت ذلك في حديث الشفاعة الصحيح... والقتل الواقع منه لم يكن عن عمد فليس بكبيرة، لأن الوكزة في الغالب لا تقتل." انتهى من "الفتح القدير" (4 / 216).
الرد على اتهام موسى عليه السلام بإرادة القتل مرة ثانية
وفي المرة الثانية لم يقصد قتل أحد، وإنما أراد دفع الفرعوني الظالم؛ لأن البطش لا يعني القتل، وإنما يعني التعامل مع الشيء بالقوة والغلبة.
جاء في "مقاييس اللغة" (1 / 262): "بطش: أصل واحد، وهو: أخذ الشيء بقهر وغلبة وقوة" انتهى.
لكن الإسرائيلي لما عنفه موسى بسبب ما تكرر منه، ظن الإسرائيلي أنه يريد أن يقتله، أما في الحقيقة والواقع، فإن موسى عليه السلام أراد دفع ظلم القبطي الفرعوني فحسب.
قال الطبري رحمه الله تعالى:
" يقول تعالى ذكره: فلما أراد موسى أن يبطش بالفرعونيّ الذي هو عدو له وللإسرائيلي، قال الإسرائيلي لموسى، وظنّ أنه إياه يريد (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ). وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل." انتهى من "تفسير الطبري" (18 / 195).
وقال الواحدي رحمه الله تعالى:
"(فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا) أي: بالقبطي، الذي هو عدو لموسى والإسرائيلي، ظن الإسرائيلي أن موسى يريد أن يبطش به، لقوله له: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ)، فقال: (يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ)، وهذا قول جميع المفسرين." انتهى من"البسيط" (17 / 362).
فالحاصل؛ أن اتهام موسى بإرادة القتل: هو مجرد توهم من الاسرائيلي، دافعه الخوف لما أنكر موسى عليه السلام تصرفاته. أو هو قول من القبطي، على قول بعض المفسرين. وتصرف موسى عليه السلام هو اجتهاد في دفع الظلم، ومثل هذا القصد لا ينكر.
قال ابن العربي رحمه الله تعالى:
"قوله: (فَاسْتَغَاثَهُ) طلب غوثه ونصرته، ولذلك قال في الآية بعدها: (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ)، وإنما أغاثه؛ لأن نصر المظلوم دين في الملل كلها، وفرض في جميع الشرائع." انتهى من"أحكام القران" (3 / 1465).
كما أن هذا الحال وقع قبل أن يصبح رسولا. فإن اختيار الله له للرسالة، إنما حصل بعد خروجه هاربا من مصر إلى مدين ثم زواجه في هذه الغربة وأثناء عودته منها خاطبه الله تعالى:
(وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى، إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى، فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى، إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) طه/9 – 14.
قال الشوكاني رحمه الله تعالى:
"ومعنى اخترتك: اصطفيتك للنبوة والرسالة." انتهى من"فتح القدير" (3 / 493).
فلا يعاب على رسول ما فعله من اجتهاد، فيما يراه خيرا، قبل رسالته. وإنما الكلام في عصمة الأنبياء من مثل ذلك بعد الرسالة والنبوة.
والله أعلم.
تعليق