الحمد لله.
أولا:
الواجب إثبات الصفات لله تعالى بلا تأويل أو تمثيل، والتأويل بدعة محرمة لم تنقل عن السلف، وهو مبني على أن الظاهر محال يجب نفيه عن الله، وهذه ضلالة أخرى، لاستلزامها أن الله وصف نفسه بالباطل والمحال، وأن القرآن مشتمل على ما هو باطل.
قال ابن قدامة رحمه الله: "فقَدْ ثَبَت ما ادَّعَيْناه مِنْ مذهب السلف رحمةُ الله عليهم، بما نقَلْناه عنهم جملةً وتفصيلًا، واعترافِ العلماء مِنْ أهل النقل كُلِّهم بذلك، ولم أعلم عن أحَدٍ منهم خلافًا في هذه المسألة، بل قد بلغني عمَّنْ يذهب إلى التأويل لهذه الأخبار والآياتِ الاعترافُ بأنَّ مذهب السلفِ فيما قُلْناه، ورأيتُ لبعض شيوخهم في كتابه قال: اختلف أصحابُنا في أخبار الصِّفات؛ فمنهم مَنْ أَمَرَّها كما جاءَتْ مِنْ غيرِ تفسيرٍ ولا تأويلٍ، مع نفي التشبيه عنها، وهو مذهب السلف؛ فحَصَل الإجماعُ على صحَّةِ ما ذكَرْناه" انتهى من ذم التأويل لابن قدامة ص26
ثانيا:
تأويل اليد بالرحمة أو بالقدرة –مع كونه بدعة- تبطله التثنية أيضا؛ لأن الله لا يوصف بأن له رحمتين أو قدرتين، إجماعا.
قال الباقلاني رحمه الله: ""يقال لهم: هذا باطل لأن قوله "بيديَّ": يقتضي إثبات يدين هما صفة له، فلو كان المراد بها القدرة، لوجب أن يكون له قدرتان.
وأنتم لا تزعمون أن لله سبحانه قدرة واحدة؛ فكيف يجوز أن تثبتوا له قدرتين؟
وقد أجمع المسلمون، من مثبتي الصفات والنافين لها: على أنه لا يجوز أن يكون له تعالى قدرتان، فبطل ما قلتم.
وكذلك لا يجوز أن يكون الله تعالى خلق آدم بنعمتين، لأن نعم الله تعالى على آدم وعلى غيره لا تحصى.
ولأن القائل: لا يجوز له أن يقول: رفعت الشيء بيدي، أو وضعته بيدي، أو توليته بيدي، وهو يعني نعمته.
وكذلك لا يجوز أن يقال: "لي عند فلان يدان"، يعني "النعمتين"؛ وإنما يقال: "لي عنده يدان بيضاوان"، لأن القول: "يد" لا يستعمل إلا في اليد التي هي صفة للذات.
ويدل على فساد تأويلهم أيضاً: أنه لو كان الأمر على ما قالوه، لم يغفل عن ذلك إبليس، وعن أن يقول: "وأي فضل لآدم عليّ يقتضي أن أسجد له؟ وأنا أيضاً بيدك خلقتني التي هي قدرتك، وبنعمتك خلقتني".
وفي العلم بأن الله تعالى فضل آدم عليه بخلقه بيديه: دليل على فساد ما قالوه" انتهى من "تمهيد الأوائل" ص297
ثالثا:
إذا قيل: بين يدي كذا، فمعناه: أمامه، وهذا استعمال خاص، فلا يراد باليد هنا اليد المعروفة، ولا القدرة ولا النعمة!
قال الإمام أبو منصور الأزهري رحمه الله :"وَيُقَال : بيْن يَديْك كَذَا ، لكلّ شَيْء أمامك، قَالَ الله : (مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ)" انتهى من " تهذيب اللغة " (14/169).
وقال الراغب الأصفهاني رحمه الله :"ويقال: هذا الشيء بين يديك ، أي : متقدما لك ، ويقال : هو بين يديك أي :قريب منك ، وعلى هذا قوله : ( ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ) ، (ولَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا) " انتهى من " المفردات " ص156
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "واعلم أن لفظ اليدين قد يستعمل في اللغة العربية استعمالاً خاصاً، بلفظ خاص، لا تقصد به في ذلك النعمة، ولا الجارحة، ولا القدرة، وإنما يراد به معنى أمامَ.
واللفظ المختص بهذا المعنى هو لفظة اليدين، التي أضيفت إليها لفظة بين خاصة، أعني لفظة بين يديه، فإن المراد بهذه اللفظة أمامه.
وهو استعمال عربي معروف مشهور في لغة العرب، لا يقصد فيه معنى الجارحة ولا النعمة ولا القدرة، ولا أي صفة كائنة ما كانت.
وإنما يراد به أمامَ فقط، كقوله تعالى: (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه) أي ولا بالذي كان أمامه سابقاً عليه من الكتب.
وكقوله: (ومصدقا لما بين يديه من التوراة)، أي مصدقاً لما كان أمامه متقدماً عليه من التوراة.
وكقوله: (فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) ، فالمراد بلفظ: (ما بين أيديهم) ما أمامهم.
وكقوله تعالى: (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته)، أي يرسل الرياح مبشرات أمام رحمته التي هي المطر، إلى غير ذلك من الآيات.
ومما يوضح لك ذلك أنه لا يمكن تأويل اليدين في ذلك بنعمتين ولا قدرتين ولا جارحتين، ولا غير ذلك من الصفات، فهذا أسلوب خاص دال على معنى خاص بلفظ خاص مشهور في كلام العرب، فلا صلة له باللفظ الدال على الجارحة بالنسبة إلى الإنسان، ولا باللفظ الدال على صفة الكمال والجلال الثابتة لله تعالى. فافهم" انتهى من أضواء البيان (7/288).
فمن احتج بقوله تعالى: (بين يدي رحمته) ليقول إن الرحمة لها اليدان، أو ليلزم بخصمه بذلك توصلا إلى تأويل اليد، فهو جاهل باللغة، يظن أن اليد هنا هي اليد المعروفة، وفاته أن هذا تركيب خاص معناه: أمام.
والله أعلم.
تعليق