الحمد لله.
أولا:
هل ينسب هذا البيت (قد استوى بشر على العراق...) إلى الأخطل؟
هذا البيت يُنسب للأخطل، ولم يصح عنه، كما ذكر غير واحد، ولا يوجد في ديوانه.
قال ابن الجوزي رحمه الله: "وبعضهم يقول: استوى بمعنى استولى، ويحتج بقول الشاعر:
حتَّى اسْتَوى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقٍ
وبقول الشاعر أيضاً:
هُمَا اسْتَويا بِفَضْلِهِما جَمِيْعاً... عَلى عَرْشِ المُلوكِ بغَيْرِ زُوْرِ
وهذا منكر عند اللغويين. قال ابن الاعرابي: العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى، ومن قال ذلك فقد أعظم. قالوا: وإنما يقال: استولى فلان على كذا، إذا كان بعيداً عنه غير متمكن منه، ثمّ تمكّن منه، والله عزّ وجلّ لم يزل مستولياً على الأشياء.
والبيتان لا يعرف قائلهما، كذا قال ابن فارس اللغوي.
ولو صحّا، فلا حجة فيهما، لما بيَّنَّا من استيلاء من لم يكن مستولياً.
نعوذ بالله من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة." انتهى من "زاد المسير" (2/ 128).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لم يثبت أن لفظ استوى في اللغة بمعنى استولى؛ إذ الذين قالوا ذلك عمدتهم البيت المشهور:
ثم استوى بشر على العراق... من غير سيف ودم مهراق
ولم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي، وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه، وقالوا: إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة، وقد عُلم أنه لو احتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى صحته؛ فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده، وقد طعن فيه أئمة اللغة؛ وذكر عن الخليل، كما ذكره أبو المظفر في كتابه "الإفصاح" قال سئل الخليل: هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال: هذا ما لا تعرفه العرب، ولا هو جائز في لغتها.
وهو إمام في اللغة على ما عرف من حاله، فحينئذ حمله على ما لا يعرف حمل باطل." انتهى من "مجموع الفتاوى" (5/ 146).
ثانيا:
هل الاستواء على العرش يعني الاستيلاء؟
على فرض أن الأخطل قاله، فلا حجة فيه لأن تفسير استواء الله على العرش بالاستيلاء يلزم منه معنى باطل.
قال ابن بطال رحمه الله (ت449هـ) في "شرح البخاري" (10/ 447): "وأما الاستواء؛ فاختلف الناس في معناه: فقالت المعتزلة: إنه بمعنى الاستيلاء والقهر والغلبة، واحتجوا بقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
بمعنى: قهر وغلب، ثم اختلف من سواهم في العبارة عن الاستواء:
فقال أبو العالية: استوى: ارتفع. وقال مجاهد: استوى: علا. وقال غيرهما: استوى: استقر.
فأما قول من جعل الاستواء بمعنى القهر والاستيلاء فقول فاسد؛ لأن الله تعالى لم يزل قاهرًا غالبًا مستوليًا؛ وقوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى): يقتضى استفتاح هذا الوصف، واستحقاقه بعد أن لم يكن، كما أن المذكور في البيت إنما حصل له هذا الوصف بعد أن لم يكن، وتشبيههم أحد الاستواءين بالآخر غير صحيح، ومؤد إلى أنه تعالى كان مغالَبًا في ملكه، وهذا منتف عن الله؛ لأن الله تعالى هو الغالب لجميع خلقه" انتهى.
وقال الإمام أبو الفرج عبد الواحد الشيرازي الحنبلي رحمه الله (ت486هـ):
"(فإن قال القائل من المعتزلة والأشعرية: معنى قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) أي: استولى واحتوى، ومنه قول الشاعر:
استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق
فالجواب: أنه لا يجوز حمله على ذلك؛ لأن الاستيلاء لا يوصف به إلا من كان عاجزاً مغلوباً ثم قدر عليه من بعد ذلك...
وجواب آخر: وهو أن الاستواء في اللغة عبارة عن الارتفاع على الشيء، قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) [فصلت:11]، ولا يجوز حمله على الاستيلاء، لأنه يقال في اللغة: استولى فلان على الشيء، ولا يقال: استوى إلى الشيء" انتهى من التبصرة في أصول الدين، ص129
وقال ابن كثير رحمه الله عن الأخطل: "وهو الذي أنشد بشر بن مروان قصيدته التي يقول فيها:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعني الاستيلاء، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك، ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه، تعالى الله عن قول الجهمية علوا كبيراً.
فإنه إنما يقال استولى على الشيء إذا كان ذلك الشيء عاصياً عليه قبل استيلائه عليه، كاستيلاء بِشر على العراق، واستيلاء الملِك على المدينة بعد عصيانها عليه؛ وعرشُ الرب لم يكن ممتنعاً عليه نفَساً واحداً، حتى يقال استوى عليه، أو معنى الاستواء الاستيلاء، ولا تجد أضعف من حجج الجهمية، حتى أداهم الإفلاس من الحجج، إلى بيت هذا النصراني المقبوح، وليس فيه حجة. والله أعلم." انتهى من "البداية والنهاية" (9/ 290).
والله أعلم.
لمزيد الفائدة حول مسألة استواء الله سبحانه على العرش ينظر الأجوية التالية:
تعليق