الأحد 16 جمادى الأولى 1446 - 17 نوفمبر 2024
العربية

هل يرى ابن تيمية بدعية المولد مع قوله بإثابة الجاهل لحسن قصده؟

357400

تاريخ النشر : 20-02-2024

المشاهدات : 4099

السؤال

كتب ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" عن المولد: يأخذ المبتدعة هذا البيان لدعم احتفالهم بالمولد، والقيام بالبدع الأخرى. يقولون: إنهم سيحصلون على أجر الاحتفال بالمول،د والقيام بالبدع الأخرى كما قال ابن تيمية. يقولون: أننا سننال الأجر على هذه البدع؛ لأننا نقوم بها بدافع الحبّ والاحترام للنبي، آخرون يهاجمون ابن تيمية بزعمهم أنّه قال: يمكن للمرء أن يحصل على أجر من الله على أداء البدعة. الرجاء التوضيح.

الجواب

الحمد لله.

أولا:

الاحتفال بالمولد النبوي بدعة لا أصل لها في الشرع، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ) رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718)، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) رواه مسلم (1718)، وقال: (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42).

وقد نبه غير واحد من أهل العلم على بدعية هذا الاحتفال.

قال ابنُ الحاج المالكي رحمه الله: "وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ، مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْعِبَادَاتِ وَإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ: مَا يَفْعَلُونَهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ مَوْلِدٍ، وَقَدْ احْتَوَى عَلَى بِدَعٍ وَمُحَرَّمَاتٍ جُمْلَةٍ" انتهى من "المدخل" (2/ 2).

وقال أبو شامة رحمه الله: "ومِن .. ما ابتُدع في زماننا من هذا القبيل: ما كان يُفعل بمدينة إربل -جبرها الله تعالى- كلَّ عام في اليوم الموافق ليوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصدقات والمعروف، وإظهار الزينة والسرور... إلخ" انتهى من الباعث على إنكار البدع والحوادث، ص 23

ثانيا:

شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقرر في مواضع من كتبه، وخاصة في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم": بدعية المولد، كما يقرر أن كل بدعة ضلالة.

وغاية الأمر أنه يقول إن الجاهل قد يثاب على حسن قصده، ولا يعذب على بدعته لجهله.

وهذا يقوله الشيخ في بدعة المولد وغيرها من البدع، بل يقوله في الشرك إذا فعله الإنسان جاهلا ! فهل يقول عاقل: إن ابن تيمية يجوّز الشرك لأنه قال إن فاعله قد يثاب على حسن قصده!

وفي تقرير بدعية المولد قال الشيخ رحمه الله: " وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية، كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار؛ فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها" انتهى من "مجموع الفتاوى" (25/ 298).

وقال رحمه الله في تقرير كون الاحتفال بدعة، مع أن أصحابه قد يثابون على حسن القصد، لا على البدعة :

" وإنما الغرض أن اتخاذ هذا اليوم عيدًا: محدث لا أصل له، فلم يكن في السلف لا من أهل البيت ولا من غيرهم-من اتخذ ذلك اليوم عيدًا، حتى يحدث فيه أعمالًا؛ إذ الأعياد شريعة من الشرائع، فيجب فيها الاتباع، لا الابتداع.

وللنبي صلى الله عليه وسلم خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة: مثل يوم بدر، وحنين، والخندق، وفتح مكة، ووقت هجرته، ودخوله المدينة، وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين، ثم لم يوجب ذلك أن يُتخذ أمثال تلك الأيام أعيادًا، وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعيادًا، أو اليهود.

وإنما العيد شريعة، فما شرعه الله اتبع، وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه.

وكذلك ما يحدثه بعض الناس، إما مضاهاةً للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمًا.

والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع- من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا- مع اختلاف الناس في مولده- فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيرًا. ولو كان هذا خيرًا محضا، أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص.

وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان. فإن هذه طريقة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان.

وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حراصًا على أمثال هذه البدع، مع ما لهم من حسن القصد والاجتهاد الذين يرجى لهم بهما المثوبة، تجدهم فاترين في أمر الرسول، عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يُحَلِّي المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتبعه" انتهى من "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 123).

فتأمل ما قرره الشيخ ظاهرا، واضحا، لا لبس فيه: أن ما يرجى لهم من الأجر والمثوبة، ليس على نفس البدعة، لا اعتقادها، ولا العمل بها؛ إنما يرجى لهم المثوبة على "المحبة"، يعني: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، والاجتهاد في "محبته" أو "تعظيمه": " والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع"؛ وهذا من الطاعات العظيمة التي لا إشكال فيها، ولا ارتباط لها بنفس البدعة.

وقال رحمه الله: " فتعظيم المولد، واتخاذه موسمًا، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم؛ لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد.

ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار، أو نحو ذلك فقال: دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب، أو كما قال.

مع أن مذهبه: أن زخرفة المصاحف مكروهة" انتهى من "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/ 123).

وفي تقرير إثابة الجاهل على اجتهاده وحسن قصده، حتى لو اقترف شركا، قال رحمه الله:

" فكل عبادة غير مأمور بها : فلا بد أن يُنهى عنها.

ثم إن عَلم أنها منهي عنها، وفعلها: استحق العقاب.

فإن لم يعلم: لم يستحق العقاب.

وإن اعتقد أنها مأمور بها، وكانت من جنس المشروع: فإنه يثاب عليها.

وإن كانت من جنس الشرك: فهذا الجنس ليس فيه شيء مأمور به.

لكن قد يحسب بعض الناس، في بعض أنواعه: أنه مأمور به.

وهذا لا يكون مجتهدا؛ لأن المجتهد لا بد أن يتبع دليلا شرعيا، وهذه لا يكون عليها دليل شرعي، لكن قد يفعلها باجتهاد مثله، وهو تقليده لمن فعل ذلك من الشيوخ والعلماء.

والذين فعلوا ذلك، قد فعلوه لأنهم رأوه ينفع، أو لحديث كذب سمعوه.

فهؤلاء: إذا لم تقم عليهم الحجة بالنهي؛ لا يعذبون.

وأما الثواب: فإنه قد يكون ثوابهم أنهم أرجح من أهل جنسهم.

وأما الثواب بالتقرب إلى الله: فلا يكون بمثل هذه الأعمال" انتهى من "مجموع الفتاوى" (20/ 32).

فكلام شيخ الإسلام، رحمه الله: مطرد؛ فحيث كان الإنسان جاهلا: لم يعاقب على بدعته، بل أمكن أن يثاب على اجتهاده، ومحبته، ورغبته في الخير فوق رغبة أمثاله، وهذا كله خير، قد يثاب عليه، على نفس البدعة، لا اعتقادها، ولا العمل بها؛ فكيف يؤخذ من كلامه تجويز المولد؟! وكيف يحتج به من يعلم بدعية الاحتفال؟! فإن هذا آثم غير معذور.

وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: " ذكر أحد العلماء أن الإمام ابن تيمية رحمه الله يستحسن الاحتفال بذكرى المولد النبوي، فهل هذا صحيح يا سماحة الشيخ؟

 فأجاب: الاحتفال بالمولد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم بدعة لا تجوز، في أصح قولي العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، وهكذا خلفاؤه الراشدون، وصحابته جميعا رضي الله عنهم، وهكذا العلماء، وولاة الأمور، في القرون الثلاثة المفضلة وإنما حدث بعد ذلك بسبب الشيعة ومن قلدهم، فلا يجوز فعله، ولا تقليد من فعله.

والشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله ممن ينكر ذلك، ويرى أنه بدعة.

ولكنه في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) ذكر في حق من فعله جاهلا، ولا ينبغي لأحد أن يغتر بمن فعله من الناس أو حبذ فعله أو دعا إليه، كمحمد علوي مالكي وغيره؛ لأن الحجة ليست في أقوال الرجال، وإنما الحجة فيما قال الله سبحانه أو قاله رسوله صلى الله عليه وسلم أو أجمع عليه سلف الأمة " انتهى من مجموع فتاوى ابن باز (9/ 211).

والحاصل: أن تقرير بدعية المولد، لا يعارض كون الجاهل قد يثاب على فعله لمحبته للرسول صلى الله عليه وسلم وحسن قصده، والثواب هنا: إنما هو على المحبة والتعظيم لنبي الله صلى الله عليه وسلم ، لا على نفس البدعة.

أما من علم أنه بدعة فإنه يأثم ولا يعذر ولا ينفعه حسن قصده.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب