الحمد لله.
هذه المقولة المشهورة ، والتي قيلت في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، نقلها غير واحد عن الهرمزان، أنه قالها في عمر عندما جيء به إلى المدينة أسيرا، ورآه بلا حرس، وبعضهم أوردها أنه قالها رجل نصراني يُدعى واثق بن مسافر، جاء ليقتل عمر، فرأى أسدا يحرسه، وبعضهم أوردها بإسناد لا يصح، وبعضهم يوردها بغير إسناد، وقد جاءت القصة من طريق صحيح أنه قال :" هذا والله الملك الهنيء " ، وبيان ذلك كما يلي :
أولا : من رواها بالإسناد .
أوردها الواقدي في "فتوح الشام" (1/290) :" قال الواقدي: حدثنا ياسر بن عبد الرحمن ، عن منازل بن نزاف الصيدلاني ، وكان أعرف الناس بفتوح الشام قال:" بلغني ... وذكر قصة فتح الشام وجمع هرقل للبطارقة والملوك وقيامه فيهم خطيبا، قال : فقام إليه جبلة بن الأيهم وقال: يا عظيم الروم، إنما قتال هؤلاء العرب بقتل خليفتهم عمر بالمدينة، فلو أنت أرسلت إليه رجلا من آل غسان يقتله فيكون سبب فشلهم وانتزاع الشام من أيديهم؟ فقال هرقل: هذا شيء لا يصح أمله ولا ينقضي أجله، لأن الآجال مقدرة والأنفاس مقررة، ولكن هو شيء تطيب النفس عند سماعه، فافعل ما أردت .
قال: فأرسل جبلة من قومه رجلا يقال له واثق بن مسافر الغساني، وكان جريئا مقداما في الحروب، فقال له: انطلق إلى يثرب فلعلك تقتل عمر، فإن أنت فعلت ذلك فأنا أعطيك ما أردته من الأموال، قال فانطلق واثق بن مسافر حتى دخل المدينة ليلا، فلما كان الغد صلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالناس صلاة الصبح، ودعا وخرج إلى ظاهر المدينة يتنسم أخبار المجاهدين بالشام، قال فسبقه المتنصر، وجلس له بأعلى شجرة من حديقة أبي الدحداح الأنصاري، واستتر بأغصانها، ثم إن عمر قام عن ظاهر المدينة حين حميت الرمضاء وعاد وهو وحده، فقرب من الحديقة ودخلها، ونام في ظلها، فلما نام هم المتنصر بالنزول من الشجرة ، وجرد خنجره، وإذا هو بأسد أقبل وهو بقدر البقرة الكبيرة، وطاف حول عمر وجلس عند قدميه يلحسهما، وأقام حتى استيقظ، فعندها نزل المتنصر وقبل يد عمر، قال له: يا عمر قد عدلت فأمنت، بأبي والله: مَنِ الكائنات تحفظه ، والسباع تحرسه، والملائكة تصفه، والجن تعرفه، ثم حدثه بأمره وأسلم على يديه".
وهذا الإسناد مسلسل بالمجاهيل ، حيث لم يذكر أحد قط من أهل العلم شيخ الواقدي " ياسر بن عبد الرحمن "، ولا شيخ شيخه " منازل بن نزاف الصيدلاني "، فهما مجهولان، والواقدي متروك في رواية الحديث، يعتبر بروايته في التاريخ والسير والمغازي .
وقد رويت القصة بإسناد تالف ، وبسياق آخر قريب ، لكن نُسبت إلى الهرمزان.
أخرجه الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" (4/87)، وابن الجوزي في "المنتظم" (4/234) ، من طريق شعيب بن إبراهيم التميمي، عن سيف بن عمر التميمي، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا .... وساق قصة فتح رامهرمز وتستر، ووقوع الهرمزان في الأسر، وقدومهم به على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وفيه قالوا : حتى إذا دخلوا هيئوا الهرمزان في هيئته، فألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجا يدعى الآذين، مكللا بالياقوت، وعليه حليته، كيما يراه عمر والمسلمون في هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله فلم يجدوه، فسألوا عنه، فقيل لهم: جلس في المسجد لوفد قدموا عليه من الكوفة ، فانطلقوا يطلبونه في المسجد، فلم يروه، فلما انصرفوا مروا بغلمان من أهل المدينة يلعبون ، فقالوا لهم: ما تلددكم!؟ تريدون أمير المؤمنين؟ فإنه نائم في ميمنة المسجد، متوسد برنسه- وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس، فلما فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه، وأخلوه، نزع برنسه ثم توسده فنام- فانطلقوا ومعهم النظارة، حتى إذا رأوه جلسوا دونه، وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والدرة في يده معلقة، فقال: الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا، وجعل الوفد يشيرون إلى الناس أن اسكتوا عنه، وأصغى الهرمزان إلى الوفد، فقال: أين حرسه وحجابه عنه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب، ولا كاتب ولا ديوان، قال: فينبغي له أن يكون نبيا، فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء".
وإسنادها تالف، لأجل سيف بن عمر، وشعيب بن إبراهيم.
أما " سيف بن عمر التميمي " ، فهو مشهور برواية التاريخ، ولكنه متروك الحديث، ومتهم بالزندقة، ويروي الموضوعات .
قال أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل" (4/278) :" متروك الحديث، يشبه حديثه حديث الواقدي " انتهى، وقال ابن معين كما في "الكامل" لابن عدي (4/507):" فلس خير منه "انتهى ، وقال أبو نعيم في "الضعفاء" (95) :" مُتَّهم فِي دينه مرمي بالزندقة سَاقِط الحَدِيث لَا شَيْء". انتهى، وقال ابن حبان في "المجروحين" (1/345) :" اتهم بالزندقة ... يَرْوِي الموضوعات عَن الْأَثْبَات " انتهى، وقال أبو عبد الله الحاكم في "المدخل" (ص145) :" اتهم بالزندقة وهو ساقط في رواية الحديث " انتهى، وقال الذهبي في "المغني في الضعفاء" (2716) :" لَهُ تواليف، مَتْرُوك بِاتِّفَاق "انتهى.
وأما الراوي عنه " شعيب بن إبراهيم التميمي " ، مجهول .
قال ابن عدي في "الكامل" (5/7) :" لَهُ أَحَادِيثُ وَأَخْبَارٌ ، وَهو ليس بذلك المعروف ، ومقدار ما يروي من الحديث وَالأَخْبَارِ لَيْسَتْ بِالْكَثِيرَةِ ، وَفِيهِ بَعْضُ النُّكِرَةِ ، لأَنَّ فِي أَخْبَارِهِ وَأَحَادِيثِهِ مَا فِيهِ تَحَامُلٌ عَلَى السَّلَفِ "انتهى، وقال الذهبي في "ديوان الضعفاء" (1881) :" روى عن سيف كتبه، مجهول "انتهى.
ثانيا : من ذكرها بلا إسناد .
أورد هذه القصة بهذا اللفظ دون إسناد : الماوردي في "أدب الدنيا والدين" (ص139)، والطرطوشي المالكي في "سراج الملوك" (ص53) ، والغزالي في "التبر المسبوك في نصيحة الملوك" (ص18)، والزمخشري في "ربيع الأبرار" (4/13)، وابن الأزرق في "بدائع السلك في طبائع الملك" (ص235).
ثالثا : رُويت هذه القصة بإسناد صحيح بلفظ :" هذا والله الملك الهنيء " .
أخرجها ابن سعد في "الطبقات" (3/293) ، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/319) ، من طريق حماد بن سلمة، قال أخبرنا حميد، عن أنس بن مالك :" أن الهرمزان رأى عمر بن الخطاب مضطجعا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال" هذا والله الملك الهنيء " .
وإسناده صحيح ، وفيه حميد الطويل، وهو ثقة متهم بالتدليس، إلا أن روايته عن أنس قد تبين فيها الواسطة، وهو ثابت، فلا يضر عنعنته لأنه ثقة.
قال العلائي في "جامع التحصيل" (144) :" كان يدلس، وقال مؤمل بن إسماعيل: عامة ما يرويه حميد عن أنس، سمعه من ثابت يعني البناني عنه، وقال أبو عبيدة الحداد عن شعبة: لم يسمع حميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثا، والباقي سمعها من ثابت أو ثبته فيها ثابت. قلت فعلى تقدير أن يكون مراسيل قد تبين الواسطة فيها وهو ثقة محتج به "انتهى.
وليس ذلك الحال من عمر رضي الله عنه ، إن صح عنه أنه كان حالا دائما له في الزمان الأول، وعهد عمر وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فليس هو بالتدبير اللازم ولا المستحب للإمام، وإن كان عادلا؛ فليس يلزم من عدل الراعي غياب الحرس، لأنَّ أهل الجور وأعداء الإسلام قد يطمعون في قتل الإمام العادل، فاتخاذ الحرس حينئذ من الأخذ بالأسباب الشرعية، وقد تعرض النبي صلى الله عليه وسلم لعدة محاولات أرادوا فيها قتله، وهو أعدل الخلق صلى الله عليه وسلم، وثبت عنه أنه طلب يوما أحد أصحابه ليحرسه ليلا.
فقد أخرج البخاري في "صحيحه" (2885) ، ومسلم في "صحيحه" (2410) ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت :" كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهِرَ ، فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ ، قَالَ: لَيْتَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِي صَالِحًا يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ ، إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ سِلاَحٍ ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ ، فَقَالَ: أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ جِئْتُ لِأَحْرُسَكَ ، وَنَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قال ابن حجر في "فتح الباري" (6/82) :" وَفِي الْحَدِيثِ : الْأَخْذُ بِالْحَذَرِ، وَالِاحْتِرَاسِ مِنَ الْعَدُوِّ وَأَنَّ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَحْرُسُوا سُلْطَانَهُمْ خَشْيَةَ الْقَتْلِ " انتهى.
وعلى كلٍ ؛ فعدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وسيرته في رعيته : أشهر من أن ندلل عليه بمثل ذلك ، فرضي الله عنه وعن سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
والله أعلم.
تعليق