الحمد لله.
أولًا:
لقد أحسنتِ مرتين، المرة الأولى حين أحسنت مصاحبة صديقتك فكنت حريصة على أمر دينها؛ فإن كثيرًا من الأصحاب يصاحبون لأجل الدنيا ولا يهتمون لأمر دين أصحابهم.
وأحسنت المرة الثانية، حين بدأت تراجعين حدود تأثير صحبتها على دينك وإيمانك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ رواه الترمذي (2378) وأبو داود (4833) وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (1937).
وقال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ الصافات/22-23 .
قال عُمَرَ رضي لله عنه: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) قَالَ: "أشْبَاهَهُمْ، قَالَ: يَجِيءُ صَاحِبُ الرِّبَا مَعَ أَصْحَابِ الرِّبَا، وَصَاحِبُ الزِّنَا مَعَ أَصْحَابِ الزِّنَا، وَصَاحِبُ الْخَمْرِ مَعَ أَصْحَابِ الْخَمْر" انتهى، من "تفسير ابن كثير" (7/9).
قال الخطابي رحمه الله: "لا تخالل إلا من رضيت دينه وأمانته؛ فإنك إذا خاللته قادك إلى ينه ومذهبه، فلا تُغرِّر بدينك، ولا تخاطر بنفسك فتخالل من ليس مرضيّاً في دينه ومذهبه" انتهى، من "العزلة" (ص 141)
ثانيًا:
هناك توازن دقيق ينبغي أن يراعيه الإنسان، بين ضرورة العلاقة التي تفتح باب النصيحة والإعانة على الهداية كما فعلتِ، وبين ضرورة مراعاة خطر العلاقات التي فيها تباينات في العقائد والأفكار والقيم، والتي قد تكون بيئةً للضعف الإيماني، ولو هجر المسلم كل صاحبٍ حادَ عن الطريق؛ كان عونًا للشيطان على صاحبه في أحيان كثيرة، ولو استمر في مصاحبة كل من حاد عن طريقه، لم يأمن خطر الزلل في أحيان كثيرة. وإنما هو طريق نهْج بين وعرين، وحسنةٌ بين سيئتين؛ وكلا طرفي قصد الأمور ذميم!!
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن مصاحبة أصدقاء يتركون الصلاة أحيانًا، فكان من جوابه:
" يُنظر؛ إن كان هجرهم يؤدي إلى استقامتهم، فإنهم يُهجرون؛ تأديباً لهم وتوصلاً إلى استقامتهم.
وإن كانوا لا يبالون بالهجر؛ فإنهم لا يُهجرون، وذلك لأن الهجر دواء؛ إن نفع فهو خير، وإن لم ينفع: فالأصل أن المؤمن لا يجوز هجره.
وهكذا يقال في كل العصاة: أنهم لا يهجرون إلا إذا كان الهجر يفيدهم بالاستقامة وترك المعاصي؛ وإلا فلا يهجرون" انتهى، من "فتاوى نور على الدرب" (4/63).
ولهذا كان شرط المخالطة للناس، وأساسها الذي تقام عليه: ألا يتأثر دينك سلبا، بما عليه حال الناس؛ بل تخالط، وتصبر على ما ينالك، ودينك سليم، لم يتأثر، وعرض صيِّنٌ موفور.
قالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: "كُونُوا فِي النّاسِ كالنَّحْلَةِ فِي الطَّيْرِ: إنَّهُ لَيْسَ مِنَ الطَّيْرِ شَيْءٌ إلّا وهُوَ يَسْتَضْعِفُها، ولَوْ يَعْلَمُ الطَّيْرُ ما فِي أجْوافِها مِنَ البَرَكَةِ، لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِها.
خالِطُوا النّاسَ بِألْسِنَتِكُمْ، وأجْسادِكُمْ، وزايِلُوهُمْ بِأعْمالِكُمْ وقُلُوبِكُمْ؛ فَإنَّ لِلْمَرْءِ ما اكْتَسَبَ، وهُوَ يَوْمَ القِيامَةِ مَعَ مَن أحَبَّ". رواه الدارمي في "سننه" (320) وقال محققه: إسناده صحيح.
وينظر جواب السؤال رقم (245773)
فما المعيار الذي نقيس به علاقاتنا إذن؟
المعيار يتكون من ثلاثة أركان:
الركن الأول: مدى حرص صاحبتك على طلب الحق، والانتفاع به متى تبين لها؛ بحيث يكون الوصال سببًا في الهداية، وما ذكرتيه في سؤالك دال على قابليتها للخير والاهتداء.
الركن الثاني: مدى احترامها للاختلاف بينكما، واحترامها لعقيدتك وأفكارك وقيمك، فلا تعرض عليك أفكارها معارضة المجادل المهاجم المشكك، وإنما تعرضها عرض المحاور الطالب للهداية؛ ثم هي تكف عنك مدى أردت إيقاف الحوار.
الركن الثالث: مدى اطمئنانك لما أنت عليه، وغياب شعور الاهتزاز الناتج عن سماع أفكارها.
وهذا الركن الثالث هو أهمها؛ فإذا استعنت بالله عز وجل، وبعد الاستعانة: كنت لا تجدين ريبًا في دينك مما تسمعين، وتوفر الركنان الأولان= فإن تغليب جانب المصاحبة أحسن.
قالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود، رضي الله عنه: "خالِطُوا النّاسَ، وزايِلُوهُمْ بِما يَشْتَهُونَ؛ ودِينَكَ لا تَكْلِمَنَّهُ" رواه وكيع في الزهد (531).
ومتى اختل ركن من الثلاثة بدرجة ظاهرة كان تغليب جانب الفراق أحسن.
وأوصيكِ إن اخترت المصاحبة أن تتخوليها بالنصيحة فلا تسرفي عليها فتسأم، وأن تغلبي جانب جودة العلاقة وحسن الخلق والرفق وحسن الصحبة على جانب النقاش الفكري فإن الناس يستفزهم الشيطان للجدل، بينما يعمل السلوك الحسن في نفوسهم عمل السحر.
وعن الحسن البصري قال: "المؤمن يداري ولا يماري، ينشر حكمة الله، فإن قُبلت حمد الله، وإن رُدَّت حمد الله". انتهى، من "أخلاق العلماء" للأجري(ص/58).
وإذا حصل اختلال في الشروط، أو لم تطمئن نفسك نتيجة لمستجدات العلاقة، فنرجو أن يكون اطلاعك على جواب سؤال (كل صديقاتها غير ملتزمات فهل تقاطعهن؟) مفيدًا لك، فسيكون هو القرار الأمثل.
والله أعلم.
تعليق