الحمد لله.
أولا:
هذا الحديث ورد بسياقات متقاربة عن ثمانية من الصحابة، هم أبو ثعلبة الخشني وعبد الله بن مسعود وأبو أمامة وعتبة بن غزوان وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر ومعاذ بن جبل ، ولفظه من حديث أبي ثعلبة عند الترمذي (3058) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: وَزَادَنِي غَيْرُ عُتْبَةَ :
" قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟! قَالَ: بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ .
والحديث رواه أبو داود (4341)، والترمذي (3058)، وابن ماجه (4014)، وابن حبان (385).
وجميع طرق الحديث لا تخلو من ضعف، إلا أن بعض أهل العلم ذهب إلى تحسين الحديث لكثرة طرقه وشواهده، فقد قال الترمذي في حديث أبي ثعلبة هذا: حديث حسن غريب، وصححه أيضا بمجموع طرقه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (494).
ثانيا:
لأهل العلم في هذا الحديث مسلكان:
الأول: مسلك التخصيص، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو بالأعمال التي يشق فعلها.
والثاني: مسلك التعميم، على ظاهر الحديث، وهو أن جميع الأعمال تضاعف في أزمنة الصبر.
وممن ذهب إلى الأول: العز ابن عبد السلام، قال رحمه الله في أماليه: "حمل هذا الحديث على الإطلاق خطأ، بل هو مبنيٌّ على قاعدتين:
إحداهما: أنَّ الأعمال تشرف بثمراتها.
الثانية: أنَّ الغريب في أول الإسلام، هو كالغريب في آخره، وبالعكس؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بدأ الإسلام غريب وسيعُود كما بدأ، فطوبى للغرباء من أمَّتي" ؛ أي: المتفردين بالتقوى دُون أهل زمانه.
إذا تقرر ذلك فنقول: الإنفاق في أول الإسلام أفضل لقوله عليه السلام لخالد بن الوليد رضي الله عنه : ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) أي مد الحنطة .
والسبب فيه: أن تلك النفقة أثمرت في فتح الإسلام وإعلاء كلمة الله ما لا يثمر غيرها .
وكذلك الجهاد بالنفوس، لا يصل المتأخرون فيه إلى فضل المتقدمين، لقلة عدد المتقدمين ، وقلة أنصارهم ، فكان جهادهم أفضل ، ولأن بذل النفس مع النصرة ورجاء الحياة، ليس كبذلها مع عدمها ، ولذلك قال عليه السلام : ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر )، جعله أفضل الجهاد ليأسه من حياته .
وأما النهي عن المنكر بين ظهور المسلمين، وإظهار شعائر الإسلام؛ فإن ذلك شاق على المتأخرين لعدم المُعِين وكثرة المنكَر فيهم ، كالمنكِر على السلطان الجائر ، ولذلك قال عليه السلام : ( يكون القابض كالقابض على الجمر ) ؛ لا يستطيع دوام ذلك لمزيد المشقة ، فكذلك المتأخر في حفظ دينه . وأما المتقدمون: فليسوا كذلك لكثرة المعين وعدم المنكَر .
فعلى هذا يُنَزَّل الحديث " انتهى نقلا عن "قوت المغتذي على جامع الترمذي" للسيوطي (2/ 763).
والظاهر أن العز ابن عبد السلام أخذ هذا التخصيص من لفظ الحديث عند أبي داود وابن ماجه وابن حبان، فإنه فيه ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع الجمع بين الأحاديث القاضية بفضل عمل الصحابة.
ولفظ أبي داود: عن أبي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ، قَالَ: "سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ)المائدة/105؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ - يَعْنِي - بِنَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ ، وَزَادَنِي غَيْرُهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ".
وقد ضعف الألباني الجزء الأول من الحديث، وصحح ما يتعلق بأيام الصبر.
وممن سلك مسلك التخصيص: السندي في شرحه على أبي داود، قال: "هذا في الأعمال التي يشق فعلها في تلك الأيام، لا مطلقا. وقد جاء: ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نَصيفه ) ، ولأن الصحابي أفضل من غيره مطلقا" انتهى نقلا عن "عون المعبود" (11/ 332).
وقال الشوكاني رحمه الله في "نيل الأوطار" (8/368): أعمال الصحابة فاضلة مطلقا من غير تقييد لحالة مخصوصة ، كما يدل عليه : ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ) الحديث .
إلا أن هذه المزية للسابقين منهم.
وأما أعمال من بعد الصحابة: فلم يَرِد ما يدل على كونها أفضل على الإطلاق، إنما ورد ذلك مقيدا بأيام الفتنة وغربة الدِّين، حتى كان أجر الواحد يعدل أجر خمسين رجلا من الصحابة، فيكون هذا مخصصا لعموم ما ورد في أعمال الصحابة، فأعمال الصحابة فاضلة، وأعمال من بعدهم مفضولة، إلا في مثل تلك الحالة" انتهى.
وأما المسلك الثاني، وهو تقرير العموم في الأعمال، وأن كل عمل يعمله المتمسك بدينه في أيام الفتن والبلاء يضاعف، فهذا ذهب إليه بعض أهل العلم . وهو الذي يفهم من ظاهر الحديث.
وقد بوب ابن حبان في صحيحه على الحديث: "ذِكْرُ إِعْطَاءِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا الْعَامِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ: أَجْرَ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ".
وفضل الله واسع، فلا يبعد أن يكون المتمسك في ذلك الزمان تضاعف جميع أعماله خمسين ضعفا.
وزمن الصبر: زمن الشدة والمشقة.
قال في "مرقاة المفاتيح" (8/ 3215): "(أيام الصبر) أي: أياما لا طريق لكم فيها إلا الصبر، أو أياما يحمد فيها الصبر وهو الحبس على خلاف النفس من اختيار العزلة وترك الخلطة والخلوة، (فمن صبر فيهن) أي: في تلك الأيام (قبض على الجمر) : يرى يلحقه المشقة بالصبر كمشقة الصابر على قبض الجمر بيده، وقد أشار إليه الشاطبي بقوله:
وهذا زمان الصبر من لك بالتي ... كقبص على جمر فتنجو من البلا" انتهى.
وبكل حال؛ فمهما قيل في فضل العمل في آخر الزمان، ومضاعفة الأجر للآخذ بدينه في أيام الصبر؛ فإن أحدا من أهل العلم لم يقل بفضل أهل الزمان الآخر، على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل الصحابة هم أفضل قرون الأمة مطلقا، وإن حصل للآخر من الأمة من المضاعفة ما حصل.
قال الشيخ كمال الدِّين ابن الزملكاني رحمه الله: " فإن قيل كيف يجمع بين هذا الحديث، وبين قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"؟
قلنا: هذا لا يمنع تفضيل الأوَّلين على هؤلاء؛ لأنَّ غاية ما في هذا: أنَّ هؤلاء الأخيرين يعملون على [مشقة] شديدة، إذ القابض على دينه كالقابض على الجمر، فيضاعف ثواب العامل منهم على عمله، لقلة من يعمل ذلك العمل.
ولا يلزم من ذلك أفضليته على من تقدَّم، بل يكُون ذلك العمل الخاص الذي عمله هذا المتأخر مضاعف الثواب لقلة الأعوان عليه، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنَّكم تجدون على الخير أعوانًا ولا تجدُون على الشر أعوانًا".
ويمتاز المتقدم بأمور لا يجدها المتأخر، توازي هذه المضاعفة في هذه الأعمال الخاصَّة وتفضلها بأضعاف كثيرة، كيف وقد قال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حق الأوَّلين: " لو أنفق أحدكم مثل أُحْد ذهب " ما بلغَ مُدَّ أحدهم، ولا نصيفه " فصحَّ أنَّ خير القرون قرن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرُؤيتهم له، وصلاتهم خلفه، وغزوهم بين يديه وغير ذلك. انتهى، نقلا عن "قوت المغتذي على جامع الترمذي" للسيوطي (2/ 761).
وقال الإمام أبو العباس القرطبي، رحمه الله:
" و(قوله: وددت أنا قد رأينا إخواننا): هذا يدل على جواز تمني لقاء الفضلاء والعلماء، وهذه الأخوة هي أخوة الإيمان اليقيني، والحب الصحيح للرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقد ورد في بعض طرق هذا الحديث: أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: إخواني الذين يؤمنون بي ولم يروني، ويصدقون برسالتي ولم يلقوني، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله.
وقد أخذ أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله من هذا الحديث ومن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( إن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين منكم ) : أنه يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل ممن كان في جملة الصحابة.
وذهب معظم العلماء إلى خلاف هذا، وأن من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورآه ولو مرة من عمره، أفضل من كل من يأتي بعد، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل. وهو الحق الذي لا ينبغي أن يصار لغيره؛ لأمور:
أولها: مزية الصحبة ومشاهدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وثانيها: فضيلة السبق للإسلام.
وثالثها: خصوصية الذب عن حضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ورابعها: فضيلة الهجرة والنصرة.
وخامسها: ضبطهم للشريعة وحفظها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وسادسها: تبليغها لمن بعدهم.
وسابعها: السبق في النفقة في أول الإسلام.
وثامنها: أن كل خير وفضل وعلم وجهاد ومعروف فعل في الشريعة إلى يوم القيامة، فحظهم منه أكمل حظ، وثوابهم فيه أجزل ثواب؛ لأنهم سنوا سنن الخير، وافتتحوا أبوابه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ولا شك في أنهم الذين سنوا جميع السنن، وسابقوا إلى المكارم. ولو عددت مكارمهم، وفسرت خواصهم، وحصرت لملأت أسفارا، ولكلت الأعين بمطالعتها حيارى.
وعن هذه الجملة قال - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه البزار عن جابر بن عبد الله مرفوعا: ( إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعة - يعني: أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - فجعلهم أصحابي ) ، وقال: ( في أصحابي كلهم خير). وكذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ( اتقوا الله في أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) . وكفى من ذلك كله ثناء الله تعالى عليهم جملة وتفصيلا، وتعيينا وإبهاما، ولم يحصل شيء من ذلك لمن بعدهم.
فأما استدلال المخالف بقوله - عليه الصلاة والسلام -: ( إخواننا ) : فلا حجة فيه؛ لأن الصحابة قد حصل لهم من هذه الأخوة الحظ الأوفر؛ لأنها الأخوة اليقينية العامة، وانفردت الصحابة بخصوصية الصحبة.
وأما قوله: ( للعامل منهم أجر خمسين منكم ) : فلا حجة فيه؛ لأن ذلك - إن صح - إنما هو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه قد قال - عليه الصلاة والسلام - في آخره: لأنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون، ولا بعد في أن يكون في بعض الأعمال لغيرهم من الأجور أكثر مما لهم فيه، ولا تلزم منه الفضيلة المطلقة التي هي المطلوبة بهذا البحث، والله أعلم." انتهى من"المفهم لما أشكل من تخليص كتاب مسلم" (1/501-503).
وقال الشيخ عبد الرحمن البراك، حفظه الله:
" يستفاد مما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أن هذه الأمة خير الأمم فإذا كانت هذه الأمة خير الأمم، والصحابة خير هذه الأمة، تبين أن الصحابة خير الناس بعد الأنبياء؛ ولهذا قال الشيخ: لا كان في الأمم مثلهم ، لا كان في الماضي مثلهم، ولا يكون في آخر الزمان مثلهم، لا كان ولا يكون مثلهم.
وأما ما ورد في صفة الغرباء، وأجر الغرباء، وأن للعامل في أيام الصبر أجر خمسين من الصحابة، فهذا محمول عند أهل العلم على الفضل المقيد يعني: لهم أجر خمسين في صبرهم على البلاء والصبر على تسلط الأعداء، لا أن لهم أجر خمسين من الصحابة في كل عمل فيكونون بهذا أفضل من الصحابة" انتهى من "شرح الواسطية" (256).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم:(81279).
والله أعلم.
تعليق