الحمد لله.
أولا:
النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، كما قال تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى النجم/1-4.
وقد يجتهد صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور- وهو إمام العلماء وسيد المجتهدين-، فإن أخطأ، لم يُقرَّ على خطئه، فهو محفوظ بالوحي في جميع الأحوال، فعلى فرض أنه يقول: إن فلانا في النار- بناء على أنه مات كافرا في الظاهر- فلو كان الأمر على غير ذلك، فإن الوحي ينزل بالصواب، فليس كغيره من الناس يجتهد ويخطئ ولا ينبّه على خطئه.
نقول: على فرض ذلك؛ لأن الحكم بالنار ليس مجالا للاجتهاد، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بما لا يعلم، وقد سئل عن أشياء لم يأته فيها الوحي فلم يجب، وبعضها من نفس الباب كحكم أولاد المشركين، فقد روى البخاري (6597)، ومسلم (2660) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوْلاَدِ المُشْرِكِينَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ.
ولكن على فرض أنه صلى الله عليه وسلم يجتهد في مسألة، فهو معصوم مسدد؛ لأن ما يقوله إما وحي، وإما اجتهاد أقره الوحي، أو صوّبه الوحي.
فقوله صلى الله عليه وسلم في شأن والديه: لو كان اجتهادا أخطأ فيه،-مع أن هذا ليس مجالا للاجتهاد كما سبق- لنزل الوحي بتصحيحه وتصويبه، كما في الأثر الذي ذكرت في شأن أصحاب سلمان، فلما لم ينزل تصحيح لذلك، علمنا أنه الحق.
ثانيا:
الأثر المنقول عن السدي ضعيف منقطع، والصحيح أن الآية نزلت في بيان حال أصحاب سلمان دون أن يحكم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الآية عامة تتناول من اتصف بما ذكر فيها قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يدل عليه لفظ الآية، ويعرف به معناها من غير تناقض، وَيُعرَف به قدرها، ويظهر به مناسبتها لما قبلها وما بعدها.
وهذا هو القول المعروف عن السلف وجمهورهم، وعليه يدل ما ذكروه من سبب نزول الآية، فقد روى ابن أبي حاتم، وغيره بالأسانيد الثابتة عن سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قال سلمان: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دِين كنت معهم، فذكر من صلاتهم وعبادتهم، فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا، ولم يذكر في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم أولًا: "إنهم من أهل النار". كما رُوِيَ ذلك بأسانيد ضعيفة.
وهذا هو الصحيح، كما رُوِيَ في صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب. فدل على أنه حين بعثه الله كان في الأرض بقايا من أهل الكتاب لم يمقتهم الله.
وأيضًا؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليجيب بما لا علم عنده، وما كان علم بأن هؤلاء من أهل النار، فكيف يجيب بذلك أولًا؟!
وأيضًا فقد ثبت عنه أنه أثنى على من مات في الفترة، مثل زيد بن عمرو بن نفيل وغيره، فكيف يقول عمن كان على الدين الذي لعله لم يُبدَّل ولم يُنسخ إنهم من أهل النار؟!
وقد ذكر السدِّي في تفسيره المعروف عن أشياخه تفسير هذه الآية كما ذكر. والسدِّي وإن كان من العلماء بالتفسير ... ولكن مجاهد أرفع منه درجة في التفسير وغيره، والعالم قد يغلط فيما يسنده، فكيف بما يرسله، وهذا لا بد له منه"انتهى من "تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء" (1/ 242).
وانظر "تفسير الطبري" (2/ 150) فقد حكم الشيخ أحمد شاكر على أثر السدي بأنه منقطع.
وبان بحمد الله أنه لا يوجد ما يعارض الأصل العام، وهو أنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى؛ إن هو إلا وحي يوحى.
والله أعلم.
تعليق