الحمد لله.
السائق الذي يوصل الشخص إلى محل معين بأجرة: أجير خاص أو مشترك، والأجير إذا لم يتم العمل، ففي استحقاقه شيء من الأجرة خلاف بين الفقهاء، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا يستحق شيئا، وهو مذهب الحنابلة.
قال في شرح المنتهى (2/ 263): " (أو) امتنع (الأجير) لعملٍ (من تكميل العمل؛ فلا أجرة) له لما عمله قبل؛ لأن كلا منهم لم يسلم إلى المستأجر ما وقع عليه عقد الإجارة، فلم يستحق
شيئا، كمن استأجر من يحمل له كتابا إلى بلد بعينه، فحمله بعض الطريق، أو ليحفر له أذرعا، فحفر بعضها وامتنع من حفر الباقي" انتهى.
القول الثاني: أنه يستحق من الأجرة بقدر عمله، وهو مذهب المالكية والشافعية وبعض الحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
قال الدردير المالكي في الشرح الكبير (3/ 550): " (وإن) (قصر عامل عما شرط) عليه من العمل، أو جرى به العرف: (حُط) من نصيبه (بنسبته)؛ فينظر قيمة ما عمل مع قيمة ما ترك، فإن كانت قيمة ما ترك الثلث مثلا، حط من جزئه المشترط له ثلثه" انتهى.
وقال الصاوي في الشرح الصغير (4/ 6): "الإجارة هي عقد معاوضة على تمليك منفعة كائنة ومجعولة، في نظير عوض، أمدا معلوما أو قدرا معلوما، فإن حصل مانع قبل تمام الأمد، أو القدر، رجع للمحاسبة" انتهى.
وفي حاشية الجمل (3/ 557): " (تنفسخ) الإجارة (لتلف مستوفى منه معين) في العقد، حسا كان التلف، كدابة وأجير معينين ماتا ودار انهدمت، أو شرعا كامرأة اكتريت لخدمة مسجد مدة فحاضت فيها، (في) زمان (مستقبل) لفوات محل المنفعة فيه، لا في ماض بعد القبض، إذا كان لمثله أجرة؛ لاستقراره به، فيستقر قسطه من المسمى باعتبار أجرة المثل، فلو كانت مدة الإجارة سنة، ومضى نصفها، وأجرة مثله مثل أجرة النصف الباقي: وجب من المسمى ثلثاه، وإن كان بالعكس فثلثه".
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية (30/ 183): "عمن استأجر أجيرا يعمل في بستان فترك العمل حتى فسد بعض البستان. فهل يستحق الأجرة؟ أو يضمن؟ أم لا؟
فأجاب:
لا ريب أنه إذا ترك العمل المشروط عليه لم يستحق الأجرة.
وإن عمل بعضه، أعطي من الأجرة بقدر ما عمل.
وإذا تلف شيء من المال بسبب تفريطه، كان عليه ضمان ما تلف بتفريطه. والتفريط هو ترك ما يجب عليه من غير عذر" انتهى.
القول الثالث: التفصيل: أنه يستحق قسطه من الأجرة، في إجارة الدار أو الأرض أو قطع المسافة، ولا يستحق شيئا من الأجرة على عمل كالخياطة والقصارة، وهذا مذهب الحنفية.
قال ابن عابدين (6/ 14): "اعلم أن أبا حنيفة كان أولا يقول لا يجب شيء من الأجرة ما لم يستوف جميع المنفعة والعمل؛ لأنه المعقود عليه؛ فلا يتوزع الأجر على الأجزاء؛ كالثمن في المبيع.
ثم رجع فقال: إن وقعت الإجارة على المدة، كما في إجارة الدار والأرض، أو قطع المسافة كما في الدابة: وجب بحصة ما استوفى لو له أجرة معلومة بلا مشقة، ففي الدار لكل يوم، وفي المسافة لكل مرحلة...
وإن وقعت على العمل كالخياطة والقصارة: فلا يجب الأجر، ما لم يفرغ منه فيستحق الكل؛ لأن العمل في البعض غير منتفع به، وكذا إذا عمل في بيت المستأجر ولم يفرغ، لا يستحق شيئا من الأجرة على ما ذكره صاحب الهداية والتجريد...
وحاصله: أنهم اتفقوا على قول أبي حنيفة: أنه لا يجب الأجر على البعض بلا تسليم أصلا.
وأما مع التسليم: فيجب الأجر على البعض، في سكنى الدار وقطع المسافة.
واختلفوا على قوله في الاستئجار على العمل كالخياطة؛ فالأكثرون على أنه يجب أيضا بالتسليم، ولو حكما، وخالفهم صاحبا الهداية والتجريد فقالا: لا يجب.
قال الزيلعي: وهو الأقرب إلى المروي عن أبي حنيفة من الفرق بينهما في القول المرجوع إليه، وعلى ما ذكروه لا فرق بين الكل اهـ" انتهى.
وبان بهذا أن المذاهب الثلاثة: الحنفية والمالكية والشافعية، على أنه في مسألتنا (وهي الإجارة على المسافة) أن الأجير يستحق من الأجرة بقدر ما قطع منها، وهذا القول هو الأحوط.
فيُنظر: لو أوصلك نصف المسافة، فله نصف الأجرة، أي أجرة راكب، ولو أوصلك ربع المسافة فله ربع الأجرة، أي أجرة نصف راكب.
فإن كان السائق أوصلك ربع المسافة، فلا شيء عليك. وإن كان أوصلك أكثر من ذلك، فله بحسابه، فتجتهدين في الوصول إليه لإعطائه حقه، فإن لم تصلي إليه فتصدقي به عنه.
هذا الأحوط.
وإن أخذت بقول الحنابلة؛ خاصة إذا كان متعديا بأن كان طريقك يخالف طريق الراكبة، وكان إركابك مظنة اعتراضها بما يؤدي إلى إنزالك، فلا حرج عليك.
والله أعلم.
تعليق