الحمد لله.
أولا:
قال الله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ النحل/75.
أهل التفسير على قولين في توجيه معنى هذه الآية:
القول الأول:
هو أن هذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه وللأوثان، فهو مالك كل شيء الرازق النافع، والأوثان لا تملك شيئا لا لنفسها ولا لغيرها، وهذا قول مجاهد.
قال الواحدي رحمه الله تعالى:
" قال مجاهد في هذه الآية والتي تليها: كل هذا مَثَلُ إله الحق وما يُدْعَى من دونه من الباطل.
وقال السُّدي: هذا مَثَلٌ ضربه الله للآلهة؛ يقول: كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء، ورجل حُرٌّ قد رُزق رزقًا حسنًا فهو ينفق منه سِرًّا وجَهرًا لا يخاف من أحد، فكذلك أنا وهذه الآلهة التي تَدْعُون، ليست تملك شيئًا وأنا الذي أملك وأرزق مَنْ شئت، وهذا القول هو اختيار الفراء، والزجاج قال: بَيَّنَ اللهُ لهم أمرَ ضلالتهم وبعدهم عن الطريق في عبادتهم الأوثان، فذكر أن المالك المقتدر على الإنفاق والعاجز الذي لا يقدر أن ينفق لا يستويان، فكيف يُسَوَّى بين الحجارة التي لا تتحرك ولا تعقل وبين الله الذي هو على كل شيء قدير، وهو رازقُ جميع خلقه " انتهى من "البسيط" (13 /142-143).
والقول الثاني: أنه مثل للكافر الذي لا ينفق في سبيل الله ولا يعمل خيرا، فهو كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء ولا نفع فيه، وللمؤمن المنفق في سبيل الله تعالى العامل للخير.
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى:
" يقول تعالى ذكره: وشَبَّه لكم شَبها أيها الناس للكافر من عبيده، والمؤمن به منهم. فأما مثَل الكافر: فإنه لا يعمل بطاعة الله، ولا يأتي خيرا، ولا ينفق في شيء من سبيل الله ماله لغلبة خذلان الله عليه، كالعبد المملوك، الذي لا يقدر على شيء فينفقه. وأما المؤمن بالله فإنه يعمل بطاعة الله، وينفق في سبيله ماله، كالحر الذي آتاه الله مالا فهو ينفق منه سرّا وجهرا...
(هَلْ يَسْتَوُونَ)، يقول: هل يستوي العبد الذي لا يملك شيئا ولا يقدر عليه، وهذا الحرّ الذي قد رزقه الله رزقًا حسنًا فهو ينفق كما وَصَف؟ فكذلك لا يستوي الكافر العامل بمعاصي الله المخالف أمره، والمؤمن العامل بطاعته.
وبنحو ما قلنا في ذلك كان بعض أهل العلم يقول.
... عن قتادة، قوله ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) هذا مثل ضربه الله للكافر، رزقه مالا فلم يقدم فيه خيرا، ولم يعمل فيه بطاعة الله، قال الله تعالى ذكره: ( وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا ) فهذا المؤمن أعطاه الله مالا فعمل فيه بطاعة الله وأخذ بالشكر ومعرفة حق الله، فأثابه الله على ما رزقه الرزق المقيم الدائم لأهله في الجنة " انتهى من"تفسير الطبري" (14 /307–308).
ولا شك أن القول الأول هو الموافق لسياق الآية، حيث ورد - قبل هذه الآية - قول الله تعالى:
( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ) النحل /73.
لكن القول الثاني من لوازم معنى الآية، وأن القادر على الخير، المباشر له : أفضل من القاعد والمعرض عنه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فالمثل ضربه اللَّه سبحانه لنفسه وللأوثان، فاللَّه سبحانه هو المالك لكل شيء ينفق كيف يشاء على عبيده ، سرًا وجهرًا ، وليلًا ونهارًا، يمينه ملأى لا يغيضها نفقة ، سحَّاء الليل والنهار، والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف تجعلونها شركاء لي ، وتعبدونها من دوني ، مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين؟ وهذا قول مجاهد وغيره.
قال ابن عباس: هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، ومَثَّل المؤمن في الخير الذي عنده ، بمن رزقه منه رزقا حسنا فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا، والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء؛ لأنه لا خير عنده، فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء؟
والقول الأول أشبه بالمراد، فإنه أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسبا بقوله: ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ثم قال: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ).
ومن لوازم هذا المثل وأحكامه : أن يكون المؤمن الموحد كمن رزقه منه رزقا حسنا، والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، فهذا مما نبه عليه المثل وأرشد إليه، فذكره ابن عباس منبها على إرادته ؛ لا أن الآية اختُصت به، فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن " انتهى من"إعلام الموقعين" (2 /283–284).
فالحاصل؛ أن الآية معناها أن الأصنام لا تستحق العبادة لعجزها، وأن الله هو المستحق للعبادة لأنه سبحانه وتعالى القادر على كل نفع.
ومن لوازم هذا: أن القادر على الخير الفاعل له أفضل وخير من العاجز عنه.
ثانيا:
ليست الآية في المعنى الذي الوارد في السؤال، وقد بينا اختلاف السلف فيها ، وما هو اللائق بسياقها، وتمام معناها.
وإن كان لا شك أن المسلم المعرض عن كسب المال الحلال وإنفاقه في الخير، ليس زهدا في الدنيا، وإنما لعجز نفسه وتصوره أنه لن يستطيع، هو متلبس بنوع ضعف، والمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، والمؤمن مأمور بمجانبة العجز، ومأمور بالاجتهاد مع الاستعانة بالله تعالى.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ رواه مسلم (2664).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم:(219763).
والله أعلم.
تعليق