الخميس 16 شوّال 1445 - 25 ابريل 2024
العربية

ما المقصود بقول عمر رضي الله عنه: (إياكم واللحم)؟

386291

تاريخ النشر : 23-03-2023

المشاهدات : 6885

السؤال

عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: " إِيَّاكُمْ وَاللَّحْمَ، فَإِنَّ لَهُ ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الْخَمْرِ" "موطأ مالك" (1742)، وإذا كان هذا صحيحا، فهل بيض الدجاج لحم؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

روى الإمام مالك في "الموطأ" (2 / 935)، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: ( إِيَّاكُمْ وَاللَّحْمَ، فَإِنَّ لَهُ ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الْخَمْرِ ).

وورد من طرق أخرى سيأتي أحدها.

ومعنى: (ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الْخَمْرِ) أي: بسبب كونه من خيار الأطعمة وأشهاها للنفس، فإن النفس إذا اعتادت عليه صعب عليها تركه، كحال مدمن الخمر فإنه يصعب عليه مفارقته.

قال النووي رحمه الله تعالى:

" قول عمر رضي الله عنه: ( إن للحم ضراوة كضراوة الخمر )، قال جماعة: معناه أن له عادة ينزع إليها كعادة الخمر.

وقال الأزهري: معناه أن لأهله عادة في أكله، كعادة شارب الخمر في ملازمته، وكما أن من اعتاد الخمر لا يكاد يصبر عنها كذا من اعتاد اللحم" انتهى من"شرح صحيح مسلم" (10/238).

ومقصد عمر رضي الله عنه ليس تحريم الاكثار من اللحم أو الاعتياد عليه؛ فهو من المباحات، ولا يلام آكله، ما لم يخرج إلى حد السرف، وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم أكل اللحم إذا وجده.

قال ابن بطال رحمه الله تعالى:

"التأسى بنبينا عليه السلام أولى... وكان عليه السلام لا يؤثر على اللحم شيئا ما وجد إليه السبيل... وبمثل الذى قلنا كان السلف يعملون" انتهى من"شرح صحيح البخاري" (9/493).

وإنما وجه تحذيره منه؛ هو أن الاعتياد عليه إلى حد الإدمان، يخالف صفة الزهد، وهو كان يفضل الزهد، والإعراض عن مباهج الدنيا، لكي يدرك جميع أجره في الآخرة، وأما أكله أحيانا فلا يرى به بأسا.

قال أبو الوليد الباجي رحمه الله تعالى:

" قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ( إياكم واللحم ) يريد بذلك المبالغة في النهي عن اللحم، ويريد والله أعلم: إياكم والإكثار منه، والمداومة عليه وأن لا يجتزئ بشيء من الأدم عنه.

يدل على ذلك أنه قد كان يأكل – أي اللحم - في بعض أوقاته ويؤكل عنده.

وقوله: ( فإن له ضراوة ) يريد عادة تدعو إليه، ويشق تركها لمن ألفها.

وإنما أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه منع التنعم بالمداومة على أكل اللحم، وبكل ما جرى مجرى ذلك، وندب إلى الاقتصاد والاقتصار على أيسر الأقوات، والله أعلم وأحكم" انتهى من "المنتقى" (7/253).

وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:

" وهذا من عمر قولٌ خرج على من خُشي منه إيثار التنعم في الدنيا والمداومة على الشهوات، وشفاء النفوس من اللذات، ونسيان الآخرة، والإقبال على الدنيا والرغبة فيها.

وكذلك كان يكتب إلى عماله: إياكم والتنعم، وزي العجم، واخشوشنوا.

ولم يرد - رضي الله عنه - تحريم شيء أحله الله تعالى، ولا يحظر ما أباحه الله، وقول الله عز وجل أولى ما امتثل واعتمد عليه:

قال الله عز وجل: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ).

يعني الحلال " انتهى من"الاستذكار" (17/ 159–160).

وقال رحمه الله تعالى:

" هذا يدل على أن الخمرة من ابتلي بها، قل ما يقلع عنها، ولا يتوب منها.

وأما اللحم فسيد الإدام، وهو غاية التنعم والرفاهية...

وكان صلى الله عليه وسلم يأكل اللحم، وكان يعجبه لحم الذراع...

وكان عمر رضي الله عنه مخشوشنا في أكله ولباسه، وكذلك في كتابه إلى أهل البصرة: ( إياكم والتنعم، وزي العجم، واخشوشنوا )، وكان حريصا على أن تكون رعيته تقتدي به في الزهد في الدنيا، والرضا بخشونة العيش" انتهى من"الاستذكار" (26/ 346–347).

كما حمله جمع من العلماء على محمل آخر حسن، وهو أن من أدمن عليه، مع كونه من خيار الأطعمة وأغلاها ثمنا؛ فإنه سيذهب ماله فيه، مع قلة الحال في ذلك الزمن، فتضيع منه فرصة وغنيمة مواساة الفقراء من الأقارب والجيران.

كما تشير إليه الرواية الأخرى عند الإمام مالك في "الموطأ" (2/936)، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ : " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَدْرَكَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ حِمَالُ لَحْمٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟

فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَرِمْنَا إِلَى اللَّحْمِ، فَاشْتَرَيْتُ بِدِرْهَمٍ لَحْمًا.

فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَطْوِيَ بَطْنَهُ عَنْ جَارِهِ، أَوِ ابْنِ عَمِّهِ؟ أَيْنَ تَذْهَبُ عَنْكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ: ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ).

قال الباجي رحمه الله تعالى:

" فيحتمل والله أعلم أن يكون في وقت شدة عمت الناس، فكره له التنعم بأكل اللحم في مثل ذلك الوقت، وأراد لو امتنع من ذلك؛ كما امتنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أكل السمن حتى يعم الناسَ الخصبُ، ويعود بفضل قُوته على جيرانه وبني عمه.

ومعنى قوله: (أما يريد أحدكم أن يطوي بطنه عن جاره وابن عمه) على وجه الإنكار لذلك...

ومعنى: (عن جاره) عندي: من أجل جاره وابن عمه، فيشاركه في قوته ليعود عليه بفضله " انتهى من"المنتقى" (7/253).

وقال ابن بطال رحمه الله تعالى:

" فإن قيل: فقد قال عمر بن الخطاب لرجل رآه يكثر الاختلاف إلى القصابين: (اتقوا هذه المجازر على أموالكم، فإن لها ضرواة كضراوة الخمر)، وعلاه بالدرّة.

وروى الحسن أن عمر دخل على ابنه عبد الله، فرأى عنده لحما طريا، فقال: ما هذا؟ قال: اشتهيناه. فقال: وكلما اشتهيت اللحم أكلته؟! كفى بالمرء سَرَفا أن يأكل كل ما اشتهى.

... قال الطبرى: وهذه أخبار صحاح ليس فيها خلاف لشيء مما تقدم، فأما كراهة عمر؛ فإنما كان خوفا منه عليه الإجحاف بماله لكثرة شرائه اللحم، إذ كان اللحم قليلا عندهم، وأراد أن يأخذ بحظه من ترك شهوات الدنيا وقمع نفسه، يدل على ذلك قوله لابنه: ( كفى بالمرء سرفا أن يأكل كل ما اشتهى )..." انتهى من "شرح صحيح البخاري" (9/ 492–493).

ثانيا:

بيض الدجاج ليس داخلا في ذلك أصلا، ولا يتناوله قول عمر رضي الله عنه السابق، أيا ما كان وجه كلامه؛ فهو ليس بلحم حقيقة ولا مجازا، ولا يشتمل على العلة والسبب الذي من أجله استحسن التقليل من تناول اللحم، وهي غلاء ثمنه وشدة تعلق النفس به، فالبيض على خلاف ذلك فهو زهيد الثمن وسهل للنفس التقليل منه.

على أنه قد روي عن عمر رضي الله عنه أيضا: الإرشاد إلى مجانبة أكل البيض لعلة أخرى، وهي علة اقتصادية، وليست تربوية؛ وهي أن البيضة الواحدة لقمة صغيرة، لا تُشبع صاحبها، فلو حافظ عليها حتى تصبح دجاجة ثم يبيعها يكون الأمر أنفع له.

فروى ابن شبة في "تاريخ المدينة" (3/ 796–797)، قال:

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ عُمَارَةَ ابْنِ غَزِيَّةَ، عن عُمَر بْن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنه قَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ أَوْفُوا الطَّحِينَ، وَامْلِكُوا الْعَجِينَ، وَخَيْرُ الطَّحِينِ مِلْكُ الْعَجِينِ، وَلَا تَأْكُلُوا الْبَيْضَ فَإِنَّمَا الْبَيْضُ لُقْمَةٌ، فَإِذَا تُرِكَتْ كَانَتْ دَجَاجَةً ثَمَنَ دِرْهَمٍ، وَإِيَّاكُمْ وَالطَّعْنَ فِي النَّسَبِ...).

وهذا إسناد ضعيف؛ فأَبُو مَعْشَرٍ وهو: نجيح بن عبد الرحمن السِّنْديُّ، قد ضعفه جمع من أهل العلم.

وعُمَارَة ابْن غَزِيَّةَ، لم يدرك زمن عمر رضي الله عنه.

قال أبو زرعة العراقي رحمه الله تعالى: " عمارة بن غزية عن أنس، عن عمر رضي الله عنه في فضل الجماعة. قال الترمذي، والدارقطني: هو مرسل لم يدرك عمارة أنسا ولم يلقه " انتهى. "تحفة التحصيل" (ص 238).

ورواه ابن ابي الدنيا في "إصلاح المال" (374)، بإسناد رجاله ثقات، قال: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ:

"أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، كَانَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: لَا تَأْكُلُوا اللَّحْمَ - يصِيحُ بِهِ - فَإِنَّ عَادَةَ اللَّحْمِ كَعَادَةِ الْخَمْرِ، وَعَلَيْكُمْ بِالزَّيْتِ فَإِنْ أَحَرَّ فِيكُمْ فَأَسْخِنُوهُ بِالنَّارِ، فَإِنَّهُ يَنْكَسِرُ عَنْكُمْ حَرُّهُ، وَلَا تَأْكُلُوا الْبَيْضَ، يَأْكُلُ أَحَدُكُمُ الْبَيْضَةَ أَكْلَةً وَاحِدَةً ، فَإِنْ حَضَنَهَا خَرَجَتْ مِنْهَا دَجَاجَةٌ".

لكن لا شك أن هذا الارشاد تختلف حاجة الناس إليه بحسب العصر والمكان والحال.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب