الحمد لله.
لم نقف على رواية في وصف جناح جبريل عليه السلام بأنه: "أكبر من الدنيا".
بل الذي روي في وصف عظم جناحه، أنه: (كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ).
رواه الإمام أحمد في "المسند" (6 / 294)، قال: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: "رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ، وَلَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ، كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، يَسْقُطُ مِنْ جَنَاحِهِ مِنَ التَّهَاوِيلِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ".
والأفق: قد وصفه الله تعالى بـ "الأعلى"، قال الله تعالى: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) النجم/7.
وقال الله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) التكوير/23.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) يعني: جبريل، استوى في الأفق الأعلى، قاله عكرمة وغير واحد.
قال عكرمة: والأفق الأعلى: الذي يأتي منه الصبح.
وقال مجاهد: هو مطلع الشمس.
وقال قتادة: هو الذي يأتي منه النهار، وكذا قال ابن زيد، وغيرهم " انتهى من "تفسير ابن كثير" (7/444).
فإن قيل: إذا كان كل جناح قد سدّ الأفق الذي يراه النبي صلى الله عليه وسلم، فأين سائر الأجنحة؟ وكيف رآه كله؟ مع أن له سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ.
فالجواب: أن هذه الرواية من رواية شريك القاضي وله أوهام.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
"شريك بن عبد الله النخعي القاضي، صدوق.
وثقة ابن معين وغيره، وقال النسائي: لا بأس به، وقال ابن المبارك: هو أعلم بحديث الكوفيين من الثوري، وقال الدارقطني وغير واحد: ليس بالقوي، وقال أبو حاتم: لا يقوم مقام الحجة في حديثه بعض الغلط" انتهى من "المغني" (1/297).
ولخص حاله الحافظ ابن حجر بقوله:
" صدوق، يخطئُ كثيرا " انتهى من "تقريب التهذيب" (ص266).
ولذا ضعّفه محققو المسند، حيث قالوا:
" إسناده ضعيف لضعف شريك -وهو ابن عبد الله النخعي " انتهى.
وروى الطبراني في "المعجم الكبير" (9/246)، وغيره: عن مُحَمَّد بْن يُوسُفَ الْفِرْيَابِيّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: " رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ مَا مِنْهَا جَنَاحٌ إِلَّا قَدْ سَدَّ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ".
وفيه قيس بن الربيع وقد ضعفه جمع من أهل العلم، ولخص حاله الذهبي بقوله:
" صدوق في نفسه، سيئ الحفظ " انتهى من "ميزان الاعتدال" (3/393).
وقد خالفهما من هو أوثق وأثبت فرواه عن عاصم عن زر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، بدون عبارة: (كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ).
فرواه الإمام أحمد في "المسند" (7/31)، قال: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ ابْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ زِرٍّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رَأَيْتُ جِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عَلَيْهِ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ، يُنْتَثَرُ مِنْ رِيشِهِ التَّهَاوِيلُ: الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ).
وروى ابن أبي شيبة في "المسند" (1/240)، قال: أخبرنا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " رَأَى رَسُولُ اللَّهِ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ عَلَى السِّدْرَةِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جُنَاحٍ".
وزائدة وحماد ثقتان.
وعلى هذا الوجه رواه البخاري (3232)، ومسلم (174) عن أَبي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيّ، قَالَ: سَأَلْتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ".
وروي عظم الجناح أيضا بطريق لا يصح.
فروى الإمام أحمد في "المسند" (6 / 410) ، قال: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، حَدَّثَنِي حُسَيْنٌ، حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رَأَيْتُ جِبْرِيلَ عَلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَلَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ)، قَالَ: سَأَلْتُ عَاصِمًا، عَنِ الْأَجْنِحَةِ؟ فَأَبَى أَنْ يُخْبِرَنِي، قَالَ: فَأَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَنَّ الْجَنَاحَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ".
فهنا المخبر بعظم الجناح، مجهول.
والثابت من طرق صحيحة عن ابن مسعود، وعائشة رضي الله عنهما؛ أن جبريل عليه السلام بأجنحته كلها سد الأفق، وليس الجناح الواحد.
فروى الإمام مسلم (177) عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى).
قَالَتْ: "إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرِّجَالِ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ ، فَسَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ".
وفي لفظ له (177) عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ).
فعظم خلقه عليه السلام إنما ملأ ما بين السماء والأرض، فهو الحيز الذي رآه متحركا نازلا فيه.
وكما عند البخاري (4858) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى) قَالَ: " رَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الأُفُقَ".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" يوضح المراد ما أخرجه النسائي، والحاكم من طريق عبد الرحمن ابن يزيد عن عبد الله بن مسعود، قال: " أَبْصَرَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَى رَفْرَفٍ قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ".
فيجتمع من الحديثين أن الموصوف جبريل والصفة التي كان عليها، وقد وقع في رواية محمد بن فضيل عند الإسماعيلي وفي رواية ابن عيينة عند النسائي كلاهما عن الشيباني عن زر عن عبد الله: (أنه رأى جبريل له ستمائة جناح، قد سد الأفق)، والمراد أن الذي سد الأفق: الرفرف الذي فيه جبريل، فنسب جبريل إلى سد الأفق مجازا، وفي رواية أحمد والترمذي وصححها من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود: ( رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي حُلَّةٍ مِنْ رَفْرَفٍ، قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ )؛ وبهذه الرواية يعرف المراد بالرفرف وأنه حلة " انتهى من"فتح الباري" (8/611).
على أنه إذا قدر أن اللفظة المسؤول عنها ثابتة، وأن المراد أن كل جناح منها قد سد الأفق؛ لم يكن ذلك مما يحيله العقل، ولا يصعب تصوره، فإن المرء لو وضع بينه وبين الشمس ستارا، لحجبها عنه. ثم لو وضع آخر فوقه، لحجبها ذلك الفوقاني أيضا، وصدق على كل منهما أنه يحجب الشمس عن عينه، فكذا، لا يبعد أن يكون كل جناح من هذه الأجنحة من شأنه أن يملأ الأفق، ويسده، حتى لو كان وراءه جناح آخر قد سد الأفق أيضا.
وتكييف أمور الغيب الخارجة عن التصور، مما لا يشتغل به أهل العلم، ولا هو مما يبنى على علم وثيق، ولذلك كانت قاعدة أهل العلم في مثل تلك الأمور الغيبية – متى ثبتت – أن يقال فيها: أمروها كما جاءت.
كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي عقب حديث سجود الشمس: "وإنما هو خبر عن غيب، فلا نكذب به، ولا نكيفه، لأن علمنا لا يحيط به" انتهى من "أعلام الحديث" (3/1893).
ونظائر ذلك وأشباهه في كلام أهل العلم كثير فاش.
والحاصل؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في حيّز لا ينكره العقل، في أفق المشرق بين السماء والأرض، وهو مع ذلك يتحرك فيه بالاقتراب من النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فصور سبحانه لأهل الإيمان صورة الحال من نزول جبريل من عنده إلى أن استوى بالأفق، ثم دنا فتدلى، وقرب من رسوله، فأوحى إليه ما أمره الله بإيحائه، حتى كأنهم يشاهدون صورة الحال، ويعاينونه هابطا من السماء، إلى أن صار بالأفق الأعلى مستويا عليه، ثم نزل وقرب من محمد صلى الله عليه وسلم، وخاطبه بما أمره الله به قائلا: ربك يقول لك كذا وكذا.
وأخبر سبحانه عن مسافة هذا القرب بأنه قدر قوسين، أو أدنى من ذلك، وليس هذا على وجه الشك، بل تحقيق لقدر المسافة، وأنها لا تزيد عن قوسين ألبتة " انتهى من"التبيان" (ص372).
فعلى هذا فلا يوجد في الخبر ما يستشكل.
والله أعلم.
تعليق