الثلاثاء 4 جمادى الأولى 1446 - 5 نوفمبر 2024
العربية

هل حديث البطاقة يعارض أحاديث وجوب العمل؟

390037

تاريخ النشر : 28-03-2023

المشاهدات : 19572

السؤال

حديث البطاقة الشهير، الذي يقول فيه النبي ﷺ: (إذا جاء يوم القيامة يؤتى برجل ينشر له تسعة وتسعون سجلاً .. إلى آخر الحديث)، هل الحديث يبطل جانب العمل؟ وأن الشهادتين تكفي للنجاة من النار ولو فعل الكبائر

ملخص الجواب

شهادة التوحيد لا تنفع صاحبها بمجرد التلفظ بها، بل لا بد من معرفة معناها، والتصديق بمحتواها، والعزم على العمل بمقتضاها. وحديث البطاقة إنما هو في حق شخص له حال خاص، فلا يلزم تحققه في سائر من قالها.

الجواب

الحمد لله.

أولا:

روى الترمذي (2639)، وابن ماجه (4300)، والإمام أحمد في "المسند" (11 / 570 — 571): عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ العَاصِ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ)، وقال الترمذي: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ".

وقال محققو المسند:

" إسناده قوي، رجاله ثقات رجال الصحيح غير إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، فقد روى له مسلم في المقدمة، ووثقه ابن معين ويعقوب بن شيبة، وقال أبو حاتم: صدوق، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ثم هو متابع...

وصححه الحاكم في الموضع الأول على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال في الموضع الثاني: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي " انتهى.

وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:

" أخرجه الترمذي، وحسنه وابن ماجه، والحاكم، وأحمد من طريق الليث بن سعد، عن عامر بن يحيى،

عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: سمعت عبد الله ابن عمرو قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره.

وقال الحاكم: " صحيح الإسناد على شرط مسلم". ووافقه الذهبي.

قلت: وهو كما قالا " انتهى من"السلسلة الصحيحة" (1/262).

ثانيا:

يثار حول هذا الحديث استشكال حاصله: أنه يوهم بأن التلفظ بشهادة التوحيد كاف لنجاة الشخص يوم القيامة، مهما أسرف في فعل المنكرات والإعراض عن فعل المأمورات.

لكن هذا الإشكال يزول عند تدبّر معنى هذا الحديث مع النصوص الأخرى الدالة على سبيل النجاة يوم القيامة، فيتبيّن أن هذه الكلمة العظيمة " شهادة التوحيد" لا تنفع صاحبها بمجرد التلفظ بها، بل لا بد من معرفة معناها، والتصديق بمحتواها، والعزم على العمل بمقتضاها، فمن تلفظ بها مع التكذيب؛ فهذا لا تنفعه، كما هو معلوم من حال المنافقين في عهد النبوة، ومن قال كلمة التوحيد وهو عازم في قلبه على عدم التسليم لما أمر الله به تعالى ورسوله، فهذا غير منقاد لأمر الله ورسوله، وقد نفى الله تعالى عنه الإيمان، حيث قال الله تعالى:

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ  النور/47.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" لو قدِّر أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك؛ ونقر بألسنتنا بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه، فلا نصلي ولا نصوم ولا نحج، ولا نصدق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئا من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر؛ وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك، ونأخذ أموالهم، بل نقتلك أيضا ونقاتلك مع أعدائك؛ هل كان يتوهم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة، ويرجى لكم ألا يدخل أحد منكم النار، بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به، ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك" انتهى من "مجموع الفتاوى"(7/287).

فكلمة التوحيد إنما تنفع قائلها يوم القيامة إن قالها بشروطها، بمعرفة وصدق وإخلاص.

قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:

" عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) ...

قوله: (من شهد أن لا إله إلا الله)، أي: من تكلم بهذه الكلمة عارفا لمعناها، عاملا بمقتضاها باطنا وظاهرا، كما دل عليه قوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وقوله: إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا عمل بمقتضاها، فإن ذلك غير نافع بالإجماع " انتهى من" تيسير العزيز الحميد" (ص51).

فإن قيل فما وجه حديث البطاقة إذا؛ حيث لم يذكر فيه أن له أعمالا صالحة تدل على صدقة، بل لم توجد منه إلا المعاصي؟

فالجواب: أنه لم يأت في حق كل من قال كلمة التوحيد، لما علمنا أن هناك أقواما ممن قالها يدخلون النار، وإنما هو في حق شخص له حال خاص؛ كشخص أسرف في الذنوب جدا، ثم قال في آخر حياته كلمة التوحيد صادقا عازما على الالتزام بها عزما مؤكدا ثم مات قبل أن يتنبه للتوبة من مضى من ذنوب.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: " فهذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيدة؛ فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه: يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة وما يزن خردلة وما يزن ذرة، بل كثير ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار، أو أكثرهم، ثم يخرج منها.

وتواترت الأحاديث بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

ولكن جاءت مقيدة بالإخلاص واليقين، وبموتٍ عليها؛ فكلها مقيدة بهذه القيود الثقال.

وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين، ومن لا يعرف ذلك يُخشى عليه من أن يفتن عنها عند الموت فيحال بينه وبينها.

وغالب من يقولها إنما يقولها تقليدًا أو عادة، ولم يخالط الإيمان بها بشاشة قلبه. وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء، كما في الحديث الصحيح: ( فيقول لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته) ...

وحينئذٍ؛ فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين، ومات على ذلك: امتنع أن تكون سيئاته راجحة على حسناته، بل كانت حسناته راجحة، فيحرم على النار؛ لأنه إذا قالها العبد بإخلاص ويقين تام، لم يكن في هذه الحال مصرًّا على ذنب؛ فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، وأخوف عنده من كل شيء؛ فلا يبقى في قلبه حينئذٍ إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله. فهذا هو الذي يحرم على النار وإن كان له ذنوب قبل ذلك.

فهذا الإيمان، وهذه التوبة، وهذا الإخلاص، وهذه المحبة، وهذا اليقين، وهذه الكراهة: لا يتركون له ذنبًا إلا مُحِيَ عنه، كما يمحي النهار الليل.

فإن قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأصغر والأكبر: فهذا غير مصر على ذنب أصلًا؛ فيغفر له، ويحرم على النار.

وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك: فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة؛ فيحرم على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه..." انتهى من "تفسير آيات أشكلت" (1/358-361).

وقال أيضا: " والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر الله له به كبائر. كما في الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر. فيقال: هل تنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: لا ظلم عليك. فتخرج له بطاقة قدر الكف، فيها شهادة أن لا إله إلا الله، فيقول: أين تقع هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فتوضع هذه البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فثقلت البطاقة وطاشت السجلات.

فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق، كما قالها هذا الشخص. وإلا؛ فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم، كما ترجح قول صاحب البطاقة." انتهى، من "منهاج السنة" (6/219-221).

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:

" وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن - من محبة الله، والخضوع له، والذل له، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع، والعطاء، والحب، والبغض - ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي، والإصرار عليها.

ومن عرف هذا، عرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)، وقوله: (لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله)، وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قيلت قبل ورود الأوامر والنواهي واستقرار الشرع... ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة.

والشارع - صلوات الله وسلامه عليه - لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط، فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فلا بد من قول القلب، وقول اللسان، وقول القلب يتضمن من معرفتها، والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته - من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب، علما ومعرفة ويقينا وحالا: ما يوجب تحريم قائلها على النار، وكل قول رتب الشارع ما رتب عليه من الثواب، فإنما هو القول التام...

وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب!!

ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل، وطاشت لأجله السجلات؛ لمَّا لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات، انفردت بطاقته بالثقل والرزانة " انتهى من"مدارج السالكين" (2/ 888-891).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب