الحمد لله.
ما أشرت إليه من العجز الجنسي، هو على نوعين :
النوع الأول: عجز هو في حقيقته مجرد ضعف جنسي لا يزول بسببه ميل قلب صاحبه إلى النساء، ويمكنه الاستمتاع بالمرأة ولو على وجه ضعيف.
فمثل هذا الرجل هو مخاطب بغض بصره عن النساء الأجنبيات.
قال الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ النور/30.
ولا يوجد دليل يستثنيه من هذا الأمر، بل تتناوله الآية؛ لأنه يحتمل أن تثور شهوته ويحدث الفساد بهذا النظر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" الراجح في مذهب الشافعي وأحمد: أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز، وإن كانت الشهوة منتفية؛ لكن لأنه يُخاف ثورانها؛ ولهذا حرمت الخلوة بالأجنبية، لأنها مظنة الفتنة، والأصل أن كل ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز؛ فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة؛ ولهذا كان النظر الذي يفضي إلى الفتنة محرما، إلا إذا كان لمصلحة راجحة، مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما؛ فإنه يباح النظر للحاجة، لكن مع عدم الشهوة.
وأما النظر لغير حاجة إلى محل الفتنة: فلا يجوز.
ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه أو أدامه وقال: إني لا أنظر لشهوة: كذب في ذلك؛ فإنه إذا لم يكن معه داع يحتاج معه إلى النظر، لم يكن النظر إلا لما يحصل في القلب من اللذة بذلك" انتهى من "مجموع الفتاوى" (21/251).
النوع الثاني: عجز جنسي تام ودائم، بحيث لا يوجد في قلب صاحبه أي ميل إلى التمتع بالنساء، ولا يستطيع ذلك بوجه من الوجوه، فمثل هذا جاء الشرع بالتخفيف عنه، والإذن له بالنظر إلى ما يظهر من المرأة عادة عند الشغل، كالوجه والكفين.
قال الله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ النور/31.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
"وقوله: (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ) يعني: كالأُجراء، والأتباع الذين ليسوا بأكِفَّاء، وهم مع ذلك في عقولهم وَلَه وخَوَث، ولا هَمّ لهم إلى النساء ولا يشتهونهن.
قال ابن عباس: هو المغفل الذي لا شهوة له.
وقال مجاهد: هو الأبله... وكذلك قال غير واحد من السلف" انتهى من "تفسير ابن كثير" (6/48).
وقال القرطبي رحمه الله تعالى:
"واختلف الناس في معنى قوله: ( أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ )، فقيل: هو الأحمق الذي لا حاجة به إلى النساء. وقيل الأبله. وقيل: الرجل يتبع القوم فيأكل معهم ويرتفق بهم، وهو ضعيف لا يكترث للنساء ولا يشتهيهن. وقيل العنين. وقيل الخصي. وقيل المخنث. وقيل الشيخ الكبير، والصبي الذي لم يدرك.
وهذا الاختلاف كله متقارب المعنى، ويجتمع فيمن لا فهم له، ولا هِمّة ينتبه بها إلى أمر النساء" انتهى من "تفسير القرطبي" (15/ 221–222).
فيجوز لمثل هذا النظر على الوجه الذي أرشدت إليه الآية الكريمة؛ يعني: في حدود ما يظهر من المرأة في العادة.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" ومن ذهبت شهوته من الرجال، لكبر، أو عُنّة، أو مرض لا يرجى برؤه، أو الخصي، أو الشيخ، أو المخنث الذي لا شهوة له، فحكمه حكم ذي المحرم في النظر لقول الله تعالى: ( أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ )، أي: غير أولي الحاجة إلى النساء. قال ابن عباس: هو الذي لا تستحي منه النساء... وعن مجاهد وقتادة: الذي لا أرب له في النساء.
فإن كان المخنث ذا شهوة، ويعرف أمر النساء، فحكمه حكم غيره " انتهى من "المغني" (9/ 503).
وهذا فيما يخص نظره إلى من قد يلتقي بها في عمل أو شارع، ونحوه مما يعتاد رؤيته، ويصادفه في سعيه وتقلبه.
وأما لهوه بالنظر إلى البرامج والرسوم المتحركة التي تحتوي على مشاهد ورسوم عارية؛ فهذا الأمر ينهى عنه ليس من باب خوف فتنة الشهوة؛ إذا صح أنه لا شهوة له، ولكن من باب هجر أصحاب المعاصي وأعمالهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"ولا يجوز لأحد أن يحضر مجالس المنكر باختياره لغير ضرورة، كما في الحديث أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر)، ورفع لعمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر فأمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم صائما . فقال: ابدءوا به، أما سمعتم الله يقول: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ).
بيّن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن الله جعل حاضر المنكر كفاعله " انتهى من "مجموع الفتاوى" (28/ 221-222).
هذا، مع أن من يطلب ذلك، ويتتبع أمثال هذه المشاهد والرسوم، يصعب أن يقال فيه: إنه لا شهوة له؛ بل الظاهر أن له شهوة، وأنه لا يؤمن ثورانها؛ كحال المخنث الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونهى النبي عن دخوله على النساء لما وجد تفطنه إلى مواضع النظر والشهوة.
والله أعلم.
تعليق