الحمد لله.
أولا:
الهداية في اللغة: تأتي بمعنى الدلالة والإرشاد والبيان، وبمعنى التوفيق.
قال ابن فارس رحمه الله تعالى:
" (هدى) الهاء والدال والحرف المعتل: أصلان:
أحدهما: التقدم للإرشاد.
والآخر: بعثة لطف" انتهى من "مقاييس اللغة" (6/42).
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" قال ابن قتيبة: الهدى: الإِرشاد، والإرشاد: البيان.
وقال أبو بكر بن الأنباري: أصل الهدى في كلام العرب: التّوفيق " انتهى من" نزهة الأعين النواظر" (ص 625).
ومعنى الهداية في النصوص الشرعية لا يخرج عن معناها في اللغة ، فتأتي لمعنيين:
الأول: هداية بمعنى البيان والدلالة والإرشاد.
كما في قول الله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) الإنسان/2–3.
وقوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) البلد/ (8-10.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ )، أي: بيّنا له وعرّفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر ببعث الرسل، فآمن أو كفر، كقوله تعالى: ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ).
وقال مجاهد: أي بيّنا له السبيل إلى الشّقاء والسّعادة..." انتهى من"تفسير القرطبي" (21/449).
وهذه هي الهداية التي كُلّف بالقيام بها الرسل عليهم السلام وأتباعهم.
كما في قول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الشورى/52.
وقول الله تعالى: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) الرعد/7.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" أظهر الأقوال في هذه الآية الكريمة أن المراد بالقوم الأمة، والمراد بالهادي الرسول، كما يدل له قوله تعالى: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ) الآية، وقوله: ( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ )، وقوله: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا ) الآية " انتهى من "أضواء البيان" (3/93).
وقال الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) السجدة/23–24.
وقال الله تعالى: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) الأعراف/181.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" يقول تعالى: ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا ) أي: ومن الأمم ( أُمَّةٌ ) قائمة بالحق، قولا وعملا ( يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ) يقولونه ويدعون إليه، ( وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) يعملون ويقضون" انتهى من "تفسير ابن كثير" (3/516).
المعنى الثاني: هداية بمعنى الـتوفيق إلى الحق والتثبيت عليه إلى الممات.
والهداية بهذا المعنى إنما هي بيد الله تعالى وحده؛ فلا يقدر عليها إلا الله ، فيهدي من يشاء فضلا منه ، ويضل من يشاء عدلا منه .
قال الله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) البقرة/272.
وقال تعالى: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) النحل/35-37.
وقال تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) القصص /56.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" الهدى المنفي عنه صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى هنا: ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ )، هو هدى التوفيق؛ لأن التوفيق بيد الله وحده، وأن الهدى المثبت له صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )، هو هدى الدلالة على الحق والإرشاد إليه " انتهى من "أضواء البيان" (6/505).
وقال القرطبي رحمه الله تعالى:
"الهدى هُدَيَان: هدى دلالة، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى: ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ )، وقال: ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )، فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة، والدعوة، والتنبيه، وتفرّد هو سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) " انتهى من "تفسير القرطبي" (1/247).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" الهداية تنقسم إلى قسمين:
هداية علم، وإرشاد.
وهداية توفيق، وعمل.
فالأولى ليس فيها إلا مجرد الدلالة؛ والله عزّ وجلّ قد هدى بهذا المعنى جميع الناس، كما في قوله تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ ).
والثانية: فيها التوفيق للهدى، واتباع الشريعة، كما في قوله تعالى: ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ )، وهذه قد يحرمها بعض الناس، كما قال تعالى: ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى )، ( فَهَدَيْنَاهُمْ )، أي: بيّنّا لهم الحق، ودَلَلْناهم عليه؛ ولكنهم لم يوفقوا.. " انتهى من "تفسير الفاتحة والبقرة" (1/16).
ثانيا:
ومن التفصيل السابق ينحل الإشكال الذي طرحته بقولك: " إذا كانت الهداية من عند الله فلماذا يجب أن ندعو الناس إلى الإسلام".
لأن الهداية التي كلف بالقيام بها الرسل وأتباعهم إنما هي هداية البيان والإرشاد، لا هداية التوفيق. وهداية البيان والإرشاد: مقدورة للخلق، والأنبياء وأتباعهم مأمورون بهداية الناس بهذا المعنى؛ أي: بيان دين الله الذي أنزله لعباده، ودعوة الناس إليه، وهذا مقدور لهم، وأما توفيق الناس لقبول ذلك، فليس مقدورا لأحد، سوى الله جل جلاله، ولذلك لم يأمر به خلقه.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" الهدى بمعنى دعاء الخلق إلى ما ينفعهم، وأمرهم بذلك، وهو نصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب: فهذا أيضا يشترك فيه جميع المكلفين، سواء آمنوا أو كفروا، كما قال تعالى: ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى )، وقال تعالى: ( إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ )، وقال تعالى: ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ).
فهذا، مع قوله: ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ )؛ يبين أن الهدى الذي أثبته هو البيان والدعاء؛ والأمر والنهي؛ والتعليم وما يتبع ذلك، ليس هو الهدى الذي نفاه، وهو القسم الثالث الذي لا يقدر عليه إلا الله. والقسم الثالث: الهدى الذي هو جعل الهدى في القلوب..." انتهى من "مجموع الفتاوى" (18/172).
والله سبحانه وتعالى جعل هداية التوفيق التي هي بيده، عقب قيام الدعاة بالهداية التي كلفوا بها وهي البيان والدعوة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" قوله: (هْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).
فالهداية: هي البيان والدلالة، ثم التوفيق والإلهام، وهو بعد البيان والدلالة.
ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل، فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف: ترتب عليه هداية التوفيق، وجعل الإيمان في القلب، وتحبيبه إلى العبد، وتزيينه في قلبه، وجعله مؤثرا له، راضيا به، راغبا فيه " انتهى من "مدارج السالكين" (1/178).
والله أعلم.
تعليق