الحمد لله.
أولا:
ما المقصود بـ المتابعة بين الحج والعمرة؟
روى الترمذي (810)، والنسائي (2631 )؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ، وَالذَّهَبِ، وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الجَنَّةُ.
وقال الترمذي: "وَفِي البَابِ عَنْ عُمَرَ، وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ حُبْشِيٍّ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَجَابِرٍ. حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ" انتهى.
ولفظ: (تَابِعُوا)، فسرها جمع من أهل العلم، بأن يلحق أحدهما بالآخر، فإذا حج اعتمر، وإذا اعتمر حج.
قال الطيبي رحمه الله تعالى:
" قوله: (تَابِعُوا)، أي: إذا حججتم فاعتمروا، أو إذا اعتمرتم فحجوا " انتهى من"شرح المشكاة" (5 /1945).
وقال السندي رحمه الله تعالى:
قوله: (تابعوا بين الحج والعمرة) أي: أوقعوا المتابعة بينهما، بأن تجعلوا كلا منهما تابعا للآخر، أي: إذا حججتم فاعتمروا، وإذا اعتمرتم فحجوا" انتهى من "حاشية السندي على سنن ابن ماجه" (2/209).
ووجه ذلك: أن المتابعة أن يوقع كل واحد منهما عقب الآخر بلا فاصل.
جاء في "المعجم الاشتقاقي المؤصل" (1/ 197-198):
"(تبع)...
المعنى المحوري هو: لحُوق الشيء بمتقدم أو سابق بلا فصل ...
وكل ما في القرآن من التركيب فهو بمعنى اللحوق أو الملاحقة: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) النساء: (92)، وكذا ما في المجادلة (4)، أي: متواليين بلا فاصل" انتهى.
وفسرها بعضهم: بأن يكثر من الحج والعمرة، والاهتمام بهما؛ وذلك بأن يكون أحدهما عقب الآخر، ولو كان بينهما زمن ليس بالطويل.
قال المناوي رحمه الله تعالى:
(تابعوا بَين الْحَج وَالْعمْرَة)، أَي: ائتوا بكل منهما عقب الآخر، بحيث يظهر الاهتمام بهما، وإِن تخلّل بينهما زمن قليل" انتهى من"التيسير" (1/442).
وهذا الذي يوحي به ظاهر الحديث وهو الحث على الإكثار من الحج والعمرة.
ويؤيده حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ رواه البخاري (1773)، ومسلم (1349).
قال محب الدين الطبري رحمه الله تعالى:
"يجوز أن يراد به التتابع المشار إليه في قوله تعالى: ( فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ) فيأتي بكل واحد من النسكين عقيب الآخر، بحيث لا يتخلل بينهما زمان يصح إيقاع الثاني فيه، وهو الظاهر من لفظ المتابعة، يعني يأتي بكل منهما عقب الآخر بلا فصل، وهو الظاهر من لفظ المتابعة.
ويحتمل أن يراد به إتباع أحد النسكين الآخر ولو تخلل بينهما زمان، بحيث يظهر مع ذلك الاهتمام بهما، ويطلق عليه عرفا أنه ردفه وتبعه، والاحتمالان جاريان في قوله صلى الله عليه وسلم: ( من صام رمضان وأتبعه بست من شوال )، و الاحتمال الثاني أظهر فيهما، إذ القصد الاهتمام بهما وعدم الإهمال، وذلك يحصل بما ذكرناه، وسواء تقدمت العمرة أو تأخرت؛ لأن اللفظ يصدق على الحالين" انتهى من "القرى لقاصد أم القرى" (ص40).
قال الشيخ محمد بن علي بن آدم الإثيوبي رحمه الله تعالى:
" هذا الاحتمال الثاني هو الأرجح عندي، كما استظهره المحب الطبري رحمه اللَّه تعالى " انتهى من "ذخيرة العقبى" (23/323).
ثانيا:
ما المقصود بكون الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب؟
قوله صلى الله عليه وسلم: (يَنْفِيَانِ).
قال ابن فارس رحمه الله تعالى:
" (نَفَى) يدلّ على تعرية شيء من شيء، وإبعاده منه " انتهى. "معجم مقاييس اللغة" (5/ 456).
أي أن الإكثار من الحج والعمرة يُبعد عن فاعل ذلك ذنوبَه ويُزيلها.
وهذا كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ رواه البخاري (1773)، ومسلم (1349).
وكما في حديث عَمْرو بْن الْعَاصِ، قال: " فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ رواه مسلم (121).
وهما أيضا يبعدان عن صاحبهما الفقر.
فقد يسبق إلى خاطر الإنسان أن الإكثار منهما يحتاج إلى مزيد مال ووقت، وهذا يُفقِر الإنسان، بما يُنفق عليهما وبالزمان الذي يصرفه عليهما. فأرشد الوحي إلى أن الإكثار لا يفقر، بل يغني. وهذا مثل قوله تعالى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ سبأ/39.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" أي: مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به، وأباحه لكم؛ فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب، كما ثبت في الحديث: ( قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ )... " انتهى من"تفسير ابن كثير" (6/523).
وشبّه ازالة تتابع الحج والعمر للذنوب والفقر، بإزالة نار الصائغ والحداد، للوسخ الذي يلتصق بالحديد والذهب والفضة فينقيهم من الشوائب.
قال المباركفوري رحمه الله تعالى:
" قوله: (كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ) وهو ما ينفخ فيه الحدّاد لاشتعال النّار للتّصفية (خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) أي وسخها" انتهى من "تحفة الأحوذي" (3/454).
والله أعلم.
تعليق