الحمد لله.
يباح للرجل أن يتزين بما يشاء مما أحله الله تعالى له من حِلية الرجال وزينتهم.
والأصل في أنواع الزينة وما يتجمل به الإنسان أنه مباح ، قال الله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الأعراف/32.
قال السعدي رحمه الله في تفسيره (ص 287) :
"يقول تعالى منكرا على من تعنت، وحرم ما أحل اللّه من الطيبات : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } من أنواع اللباس على اختلاف أصنافه، والطيبات من الرزق، من مأكل ومشرب بجميع أنواعه، أي: مَن هذا الذي يقدم على تحريم ما أنعم اللّه به على العباد، ومن ذا الذي يضيق عليهم ما وسَّعه اللّه؟" انتهى .
وقال القرطبي رحمه الله :
"والزينة هنا الملبس الحسن، إذا قدر عليه صاحبه.
وقيل: جميع الثياب، كما روي عن عمر: (إذا وسع الله عليكم فأوسعوا).
وروي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب شيخ مالك رضي الله عنهم، أنه كان يلبس كساء خز بخمسين دينارا [نحو سبعة آلاف دولار الآن] ، يلبسه في الشتاء، فإذا كان في الصيف تصدق به، أو باعه فتصدق بثمنه، وكان يلبس في الصيف ثوبين من متاع بمصر ممشقين [أي مصبوغين بالحمرة] ويقول: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) …
فقد دلت الآية على لباس الرفيع من الثياب، والتجمل بها في الجمع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان .
قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا" انتهى، "تفسير القرطبي" (7/196) .
وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه ذهب لمناظرة الخوارج ولبس ثيابا رفيعة ، فأنكروا عليه ، فاحتج عليهم بهذه الآية : {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} . ينظر : "البداية والنهاية" (10/569) .
بل رَغَّب الرسولُ صلى الله عليه وسلم في ذلك ، بفعله وقوله .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا جاء الوفد لبس أحسن ثيابه؛ ليظهر أمام الوفد بالمظهر اللائق، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام محذراً من الكبر: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة خردل من كبر»، قالوا: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً؟ فقال: «إن الله جميل يحب الجمال» ، أي: يحب التجمل، وليس الجمال الطبيعي الخَلْقي؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بنى هذا الكلام على قولهم: «يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً»؛ ولأن هذا هو الذي يستطيعه الإنسان، فيثاب عليه إذا فعله، أما الجمال الخَلْقي فهذا ليس من اختيار الإنسان.
فدل ذلك على أنه ينبغي أيضاً أن يحسّن الإنسان ثيابه، ويحسّن نعله، لكن بشرط ألا يؤدي ذلك به إلى الإسراف والفخر والخيلاء، ولهذا وردت أحاديث تدل على فضل التواضع في اللباس، وهذا في مكانه، أي: لو كان الإنسان يريد أن يأتي إلى قوم فقراء، ويخشى إذا جاء بلباسه الزاهي أن تنكسر قلوبهم، فهنا الأفضل أن يلبس ما يناسب الحال، ويكون مأجوراً على ذلك" انتهى، "الشرح الممتع" (5/87) .
وإنما نُهي الرجلُ عن أشياء مخصوصة من الزينة ، كالذهب والحرير ، وما أدى إلى الإسراف والمبالغة في الزينة ، وما كان فيه تشبه بالكفار أو الفسقة أو النساء .
روى البخاري (5435) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ".
قال المباركفوري رحمه الله :
" أَيْ : الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ فِي الزِّيِّ وَاللِّبَاسِ وَالْخِضَابِ وَالصَّوْتِ وَالصُّورَةِ وَالتَّكَلُّمِ وَسَائِرِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ " انتهى . من "تحفة الأحوذي" .
وقال الشيخ زكريا الأنصاري رحمه الله :
" وَلِلرَّجُلِ لُبْسُ خَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلْإِتْبَاعِ وَالْإِجْمَاعِ ، بَلْ يُسَنُّ له كما مَرَّ … ، لَا لُبْسُ السِّوَارِ ، وَنَحْوِهِ ، كَالدُّمْلُجِ وَالطَّوْقِ ؛ فَلَا يَحِلُّ له ، وَلَوْ من فِضَّةٍ ؛ لِأَنَّ فيه خُنُوثَةً لَا تَلِيقُ بِشَهَامَةِ الرِّجَالِ" انتهى، "أسنى المطالب" (1/379).
(الدملج) : أسورة تلبس على العضد . و(الطوق) ما يلبس في العنق.
وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله :
"يَحْرُمُ التَّشَبُّهُ بِهِنَّ [ أي : بالنساء ] بِلُبْسِ زِيِّهِنَّ الْمُخْتَصِّ بِهِنَّ اللَّازِمِ في حَقِّهِنَّ ، كَلُبْسِ السِّوَارِ وَالْخَلْخَالِ وَنَحْوِهِمَا ، بِخِلَافِ لُبْسِ الْخَاتَمِ" انتهى " الفتاوى الفقهية الكبرى" (1/261).
وعلى هذا ، فلا حرج على الرجل أن يلبس الساعة سواء قصد التجمل أو قصد معرفة الوقت ، أو قصد الأمرين معا ، وهذا هو الأغلب ، بشرط ألا تكون ساعته تشبه الساعة التي تلبسها النساء ، أو تكون على هيئة الأسورة التي تلبسها النساء.
ومن المعلوم أن ساعة الرجل تكون مختلفة في هيئتها عن ساعة النساء وأساورهن ، فلا يكون الرجل متشبها بالنساء حينئذ.
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله:
بلغني أن لبس الساعة اليدوية محرم، وذلك قياسًا على الخاتم الحديد المنهي عن لبسه وهي مصنوعة من الحديد، فهل هذا صحيح؟ وما رأيكم هل نلبس الساعة أم لا؟
فأجاب :
"الصواب أنه لا حرج في ذلك، لا حرج في لبس الساعة ولا في لبس الخاتم من الحديد، وإنما المحرم لبس الخاتم من الذهب على الرجل، أما لبس الخاتم من الفضة أو من الحديد أو الساعة كل ذلك لا بأس به، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل خطب امرأة: (التمس ولو خاتمًا من حديد) رواه الشيخان في الصحيحين.
فلو كان الخاتم من حديد ممنوعًا لما قال له: التمس ولو خاتمًا من حديد، وما جاز للرجل جاز للمرأة إلا ما حرمه الشرع أو خص به المرأة أو الرجل، والذي خص به المرأة هو خاتم الذهب، فهذا هو الذي لا يجوز للرجل ويجوز للمرأة، أما خاتم الفضة وخاتم الحديد فمشترك…
والساعة إذا كانت على الطريقة التي يلبسها الرجال، ليس فيها تشبه بالنساء: فلا بأس بها ، ولا تكن من الذهب ، ولا تكن من الفضة، بل تكون من غير ذلك يلبسها الرجل، والمرأة تلبس ما يناسبها، فلا يلبس الرجل ما كان من خصائص المرأة، ولا المرأة ما كان من خصائص الرجل، كل منهما يلبس ما يليق به …
لكن لا تكون ساعة الرجل من الفضة هذا هو الذي ينبغي اقتصارًا على ما ورد في الخاتم فقط في حق الرجل.
أما الذهب فلا يجوز للرجل لا خاتم ذهب ولا ساعة الذهب" انتهى .
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله : قد كثر القيل والقال بين بعض الزملاء في مسألة لبس الساعة في اليد ، فقائل بتحريم لبسها لأنه تشبه بالنساء ، حيث إن موضع الزينة في أيديهن . وقائل بكراهتها للغرض نفسه ، وقائل بإباحة لبسها في اليد وأنها لم تكن في شيء من التشبه ، وأن الناس يلبسونها في أيديهم ، وأنها لا تصنع إلا لهذا الغرض . نرجو التكرم بإفتائنا في هذه المسألة .
فأجاب :
"الحمد لله . لا بأس بلبس الساعة اليدوية ، وليست من التشبه في شيء ؛ ما لم تكن مذهبة ، لحديث على رضي الله عنه : (نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب) رواه مسلم" انتهى "فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم" (4/53) .
والله أعلم.
تعليق