الحمد لله.
أولا:
قال الله تعالى عن المدين : (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) البقرة/280.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: "ومن فوائد الآية: وجوب إنظار المعسر، أي: إمهاله حتى يوسر، لقول الله تعالى: (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)؛ فلا تجوز مطالبته بالدين، ولا طلب الدين منه" انتهى من "تفسير سورة البقرة" (3/391).
وضابط الإعسار كما جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي: "ألا يكون للمدين مال زائد عن حوائجه الأصلية يفي بدينه نقداً أو عيناً" انتهى من "مجلة مجمع الفقه الإسلامي" (ع 6 ج 1 ص 193).
والحوائج الأصلية تشمل: السكن الذي يناسب مثله، والملبس، والدابة، وأدوات العمل، والمصنع أو الشركة التي يتكسب منها.
ويدخل في الحوائج الأصلية ما لو كان له بيت أو سيارة يؤجرهما، ويحتاج إلى أجرتهما في نفقته ونفقة عياله.
قال في دليل الطالب في التمثيل للحوائج الأصلية: " مسكن، وخادم، ودابة، وثياب بِذلة [أي لغير التجمل]، وكتب علم" انتهى.
قال ابن عوض رحمه الله في حاشيته عليه: " قوله: " وكتب علم" يحتاجها لنظر وحفظ، وحلي امرأة للُبس، أو كراء يُحتاج إليه، ودار يحتاج إلى أجرها لنفقة، وسائمة يحتاج لدرها ونسلها، وبضاعة يحتاج إلى ربحها" انتهى من "حاشية ابن عوض على دليل الطالب" (1/531).
فلو كان لصاحب العمل مال (عيني أو نقدي) زائد عن حوائجه الأصلية ، سواء من هذا المصنع أو من غيره : فليس بمعسر، وتأخره في أداء الرواتب عندئذ: مماطلة محرمة تعرضه للوعيد الشديد، كما روى البخاري (2227) عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ).
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ) رواه البخاري (2400)، ومسلم (1564).
والمطل: هو تأخير أداء الحق الواجب من غير عذر.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ) رواه أبو داود (3628)، والنسائي (4689)، وابن ماجه (2427). حسنه الألباني في "إرواء الغليل" (1434).
واللي: هو المطل والامتناع. والواجد: الغني.
ومعنى يحل عرضه: أي أن يقول الدائن: فلان مطلني وظلمني. وعقوبته: حبسه، كذا فسره سفيان وغيره.
ثانيا:
أما مساومة الدائن ليسقط بعض الدين، فهذا:
1-إن كان على سبيل المسامحة والتراضي، فلا حرج، ولا يلزم الدائن ذلك، بل حقه أن يستوفي دينه كاملا، ولو تأخر في ذلك للإعسار.
قال في "كشاف القناع" (6/315): " وله أي القاضي أن يشفع إلى خصمه ليُنظره بالدين، أو يضع عنه، ويكون ذلك بعد انقضاء الحكم؛ لأن في ذلك نفعا لخصمه، ولأن معاذا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه ، فلو تركوا لأحد لتركوا معاذا لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه سعيد. قال في المبدع: مرسل جيد.
ونقل حنبل أن كعب بن مالك تقاضى ابن أبي حدرد دينا عليه، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى كعب أن ضع الشطر من دَينك. قال: قد فعلت. قال النبي صلى الله عليه وسلم: قم فأعطه، قال أحمد هذا حكم من النبي صلى الله عليه وسلم" انتهى.
وقال في "المغني" (4/362): " القسم الثاني: الإبراء، وهو أن يعترف له بدين في ذمته، فيقول: قد أبرأتك من نصفه، أو جزء معين منه، فأعطني ما بقي؛ فيصح إذا كانت البراءة مطلقة من غير شرط.
قال أحمد: إذا كان للرجل على الرجل الدين، ليس عنده وفاء، فوضع عنه بعض حقه، وأخذ منه الباقي؛ كان ذلك جائزا لهما، ولو فعل ذلك قاض، لم يكن عليه في ذلك إثم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلم غرماء جابر ليضعوا عنه، فوضعوا عنه، الشطر.
وفي الذي أصيب في حديقته، فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ملزوم، فأشار إلى غرمائه بالنصف، فأخذوه منه.
فإن فعل ذلك قاض اليوم، جاز إذا كان على وجه الصلح والنظر لهما.
وروى يونس، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب، عن أبيه، أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج إليهما، ثم نادى: يا كعب. قال: لبيك يا رسول الله. فأشار إليه، أن ضع الشطر من دينك. قال: قد فعلت يا رسول الله. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قم فأعطه". انتهى.
2-وأما المساومة على معنى: لا أعطيك حقك حتى تسقط بعضه، فهذا محرم وهو أكل للمال بالباطل.
قال في "المغني" (4/361): " (ومن اعترف بحق، فصالح على بعضه، لم يكن ذلك صلحا؛ لأنه هضم للحق) .
وجملته: أن من اعترف بحق، وامتنع من أدائه حتى صولح على بعضه: فالصلح باطل؛ لأنه صالح عن بعض ماله ببعض، وهذا محال، وسواء كان بلفظ الصلح، أو بلفظ الإبراء، أو بلفظ الهبة المقرون بشرط، مثل أن يقول: أبرأتك عن خمسمائة، أو وهبت لك خمسمائة، بشرط أن تعطيني ما بقي. ولو لم يشترط، إلا أنه لم يعط بعض حقه إلا بإسقاطه بعضه، فهو حرام أيضا؛ لأنه هضمه حقه" انتهى.
فإذا كانت المساومة على هذا الوجه لم يجز لك القيام بها.
وأما إن كانت من باب الصلح ودعوة الدائن للإحسان والتبرع فلا بأس.
والله أعلم.
تعليق