الحمد لله.
أولا:
نسبة شيء ما إلى النصرانية أو اليهودية: لا يلزم منه بطلان هذا الشيء في نفسه؛ فإنه قد يوجد عندهم بقية مما أتت به رسلهم عليهم السلام، كإيمان النصارى بنبوة موسى عليه السلام وبآدم عليه السلام وغيرهما، وإيمانهم بالملائكة ونحو هذا.
والضابط في قبول أو رد أقوال أهل الكتاب: إنما يكون بعرضها على الوحي والشرع الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا وجدنا قولهم يصدقه ديننا قبلناه، وإذا وجدنا في شرعنا ما يعارضه رددنا قول أهل الكتاب، وإذا سكت عنه شرعنا سكتنا عنه فلا نصدقه ولا نكذبه.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) الآيَةَ) رواه البخاري (4485).
وعن ابْنُ أَبِي نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ، وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُ) رواه أبوداود (3644)، وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (6/712).
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
"وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن لأمته أن تحدث عن بني إسرائيل، ونهاهم عن تصديقهم وتكذيبهم، خوف أن يصدقوا بباطل، أو يكذبوا بحق.
ومن المعلوم أن ما يروى عن بني إسرائيل من الأخبار المعروفة بالإسرائيليات له ثلاث حالات:
في واحدة منها يجب تصديقه، وهي ما إذا دل الكتاب أو السنة الثابتة على صدقه.
وفي واحدة يجب تكذيبه، وهي ما إذا دل القرآن أو السنة أيضا على كذبه.
وفي الثالثة: لا يجوز التكذيب ولا التصديق، كما في الحديث المشار إليه آنفا: وهي ما إذا لم يثبت في كتاب ولا سنة صدقه ولا كذبه " انتهى من "أضواء البيان" (4/238).
وبناء على هذا؛ فإن موقفنا من قول النصارى : إن النظر إلى الأجنبية هو من زنا العين، يكون بعرضه على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا وجدنا ما يصدقه قبلنا ووصفناه بأنه قول حق.
وقد وجدنا ما يصدقه في حديث متفق على صحته، فروى البخاري (6243)، ومسلم (2657) عَنِ أَبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ).
وقد بوّب عليه البخاري رحمه الله تعالى بقوله:
(بَابُ زِنَا الْجَوَارِحِ دُونَ الْفَرْجِ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" أي أن الزنا لا يختص إطلاقه بالفرج، بل يطلق على ما دون الفرج من نظر وغيره " انتهى. "فتح الباري" (11/26).
فردّ هذا الشخص للحديث بمجرد وجود قول للنصارى يشبهه، يعدّ هذا التصرف من الضلال، ويقود إلى رد كثير من عقائد وشرائع الإسلام لمجرد وجود ما يشابهها عند أهل الكتاب.
ثانيا:
استدلاله في نفي زنا العين، بحديث جَابِرٍ: " أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَةً، فَأَتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ، وَهِيَ تَمْعَسُ مَنِيئَةً لَهَا، فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: (إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً، فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ) رواه مسلم (1403).
فهذا الحديث قد سبق الكلام عنه في جواب السؤال رقم: (191224).
وحاصله: أن القصة التي في بداية الحديث متكلم في صحتها.
وعلى فرض ثبوتها؛ فإن النظر الذي يوصف بالزنا هو نظر الشهوة الذي يتعمده ويتلذذ به الناظر، وأما نظر الفجأة غير المقصود، فهذا لا يذم عليه الإنسان ولا يؤاخذ به؛ لأنه ليس تحت قدرته.
روى مسلم (2159) عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي".
قال النووي :
"(الْفُجَاءَة) هِيَ الْبَغْتَة. وَمَعْنَى نَظَر الْفَجْأَة : أَنْ يَقَع بَصَره عَلَى الْأَجْنَبِيَّة مِنْ غَيْر قَصْد، فَلَا إِثْم عَلَيْهِ فِي أَوَّل ذَلِكَ، وَيَجِب عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِف بَصَره فِي الْحَال، فَإِنْ صَرَفَ فِي الْحَال فَلَا إِثْم عَلَيْهِ، وَإِنْ اِسْتَدَامَ النَّظَر أَثِمَ" انتهى .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يَا عَلِيُّ، لا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الأُولَى، وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ) رواه الترمذي (2701)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7953).
قال المباركفوري في "شرح سنن الترمذي" :
"قوله : ( لا تتبع النظرة النظرة ) من الإتباع , أي : لا تعقبها إياها ولا تجعل أخرى بعد الأولى (فإن لك الأولى) أي النظرة الأولى إذا كانت من غير قصد (وليست لك الآخرة ) أي النظرة الآخرة لأنها باختيارك فتكون عليك" انتهى .
فالمقطوع به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعمد النظر إلى تلك المرأة ، وإنما وقع بصره عليها بلا قصد ، وبمجرد وقوع بصره عليها صرفه عنها ، صلى الله عليه وسلم ؛ وإنما فعل ما فعل صلى الله عليه وسلم، لكمال صيانته، وطهارة قلبه، وحرصه عليه، ليبقى طاهرا نقيا سليما، لا شاغل له عن ربه ، ومناجاته؛ وقد كان ولا زال، صلى الله عليه وسلم .
وقد روى مسلم (2702) عَنِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي ، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ ، فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "والغين حجاب رقيق أرق من الغيم ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يستغفر الله استغفارا يزيل الغين عن القلب " انتهى من "مجموع الفتاوى" (15/283) .
والله أعلم.
تعليق