الأربعاء 18 محرّم 1446 - 24 يوليو 2024
العربية

هل قال ابن حزم رحمه الله بأن الواجب في الوضوء مسح الرجلين؟!

409704

تاريخ النشر : 29-04-2023

المشاهدات : 2844

السؤال

هناك شخص يقول بأن ابن حزم الاندلسي قال: بأن المسح على الرجلين هو الواجب في الوضوء، وأن الزيادة على المسح ـ أي الغسل ـ لا تجوز، فأريد أن أعلم هل فعلا قال ابن حزم هذا في كتابه " المحلى بالآثار"، وإن كان قاله فكيف التوفيق بينه وبين أن علماء السنة يقولون بوجوب الغسل على الرجلين؟

الجواب

الحمد لله.

أهل السنة يوجبون رد المسائل المتنازع فيها إلى كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، عملا بقوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) النساء/59.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:

"فالطاعة الواجبة هي طاعة الله ورسوله , ولا يجوز طاعة أحد من الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا إذا وافق قوله شريعة الله, فكل واحد يخطئ ويصيب ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فإن الله عصمه وحفظه فيما يبلغه للناس من شرع الله عز وجل, قال تعالى : وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى .

فعلينا جميعا أن نتبع ما جاء به عليه الصلاة والسلام, وأن نعتصم بدين الله ونحافظ عليه, وأن لا نغتر بقول الرجال, وأن لا نأخذ بأخطائهم , بل يجب أن تعرض أقوال الناس وآراؤهم على كتاب الله وسنة رسوله, فما وافق الكتاب والسنة أو أحدهما قبل وإلا فلا, قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا" انتهى من "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (5/384).

وإذا تبين الحق في المسألة؛ فالواجب اتباعه، ولا ينظر إلى مخالفة أحد من الناس بعد ذلك.

قال الإمام الشافعي رحمه الله: "أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس" . نقله ابن القيم في "إعلام الموقعين" (2/282).

وقال ابن عباس رضي الله عنهما لمن عارض السنة بقول أَبي بكر وعمر رضي الله عنهما : (يُوشكُ أَنْ تَنزلَ عَليكُم حِجارة من السماءِ ؛ أَقولُ لَكُم : قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلمَّ وتقُولونَ : قالَ أَبو بكر وعُمر!) . 

ورواه أحمد في المسند (3121) بلفظ: " أُراهم سَيَهْلِكُون! أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقول: نهى أبو بكر وعمر!!" وقال الشيخ أحمد شاكر : إسناده صحيح .

ثانيا:

أهل السنة لا يرون العصمة لأحد من العلماء.

وذلك بخلاف بعض أهل البدع الذين يرون عصمة أئمتهم، وعصمة علمائهم باعتبارهم نوابا عن إمامهم الغائب ! وهو ما يسمونه بـ "ولاية الفقيه".

أما أهل السنة فيرون أن العلماء يجتهدون، فيصيبون، ويخطئون، فمن أصاب فله أجران ، ومن أخطأ فله أجر واحد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) رواه البخاري (7352)، ومسلم (1716) .

فهَبْ أن ابن حزم قال ذلك ، فقد أخطأ في هذا ، والسنة واضحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء ، وقد سبق بيان بعض الأدلة في هذا في جواب السؤال رقم: (69761).

وانظر بعض الأدلة في هذا في تفسير ابن كثير، عند تفسيره لآية الوضوء، سورة المائدة/6، وفي "المجموع" للنووي (1 /447-451) .

ثالثا:

أما مذهب ابن حزم في هذه المسألة ، فالمقطوع به أنه لم يقل بأن الواجب في الوضوء هو مسح الرجلين ، وأن غسلهما لا يجوز؛ وإنما يرى أن القرآن قد نزل بالمسح، في أول الأمر، ثم إن المسح نسخ، واستقر الأمر على الغسل .

وهذا نص كلامه في "المحلى" (2 /56-57):

"وَأَمَّا قَوْلُنَا فِي الرِّجْلَيْنِ : فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِالْمَسْحِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ وَسَوَاءٌ قُرِئَ بِخَفْضِ اللامِ أَوْ بِفَتْحِهَا ؛ هِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَطْفٌ عَلَى الرُّءُوسِ: إمَّا عَلَى اللَّفْظِ ، وَإِمَّا عَلَى الْمَوْضِعِ، لا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ؛ لأَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِقَضِيَّةٍ مُبْتَدَأَةٍ.

وَهَكَذَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْمَسْحِ - يَعْنِي فِي الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ - .

وَقَدْ قَالَ بِالْمَسْحِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ، وَرُوِيَتْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ...

ثم قال ابن حزم : وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالْغَسْلِ فِيهِمَا ؛ لِمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ ثنا الْفَرَبْرِيُّ ثنا الْبُخَارِيُّ ثنا مُسَدَّدٌ ثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : " تَخَلَّفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَنَا الْعَصْرُ، فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا " ...

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى إذَا كُنَّا بِمَاءٍ بِالطَّرِيقِ تَعَجَّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ، فَتَوَضَّئُوا وَهُمْ عِجَالٌ، فَانْتَهَيْنَا إلَيْهِمْ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ، أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ " فَأَمَرَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِإِسْبَاغِ الْوُضُوءِ فِي الرِّجْلَيْنِ، وَتَوَعَّدَ بِالنَّارِ عَلَى تَرْكِ الأَعْقَابِ.

فَكَانَ هَذَا الْخَبَرُ زَائِدًا عَلَى مَا فِي الآيَةِ، وَعَلَى الأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَنَاسِخًا لِمَا فِيهَا، وَلِمَا فِي الآيَةِ؛ وَالأَخْذُ بِالزَّائِدِ وَاجِبٌ" انتهى .

فهذا تصريح من ابن حزم رحمه الله بأنه يقول بالغسل ، وأن الغسل ناسخ لما في الآية من الأمر بالمسح ؛ واستدل على ذلك بالسنة .

وفهم البعض من مذهب ابن حزم أن القرآن دل على المسح –حسب رأيه- ، والسنة دلت على الغسل ، فيؤخذ بالزائد ، ويعمل بالأدلة كلها ، فيكون الواجب هو المسح والغسل جميعا ، ولعل هذا هو الذي جعل النووي رحمه الله يقول : "وأوجب بعض أهل الظاهر الغسل والمسح جميعا" انتهى من "المجموع" (1/447).

والصحيح ما قدمنا من أن ابن حزم يرى نسخ المسح، المذكور في القرآن، بالغسل الثابت بالسنة، وأن الأمر قد استقر على غسل الرجلين، فقط؛ دون مسحهما، ودن الجمع بين الغسل والمسح.

وقد قال أيضا في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" (4/112-113): " ومما نسخت فيه السنة القرآن قوله عز وجل .." فذكر آية المائدة، وذكر القراءتين فيها، على نحو ما قال في "المحلى"، ثم قال:

" فلما جاءت السنة بغسل الرجلين صح أن المسح منسوخ عنهما وهكذا عمل الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا يمسحون على أرجلهم حتى قال عليه السلام ويل للأعقاب والعراقيب من النار" انتهى.

وقد نُسب هذا المذهب – الاكتفاء بمسح الرجلين - أيضا لابن جرير الطبري رحمه الله ، وعلق على ذلك ابن كثير رحمه الله بقوله:

"ومن نقل عن أبي جعفر بن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث، وأوجب مسحهما للآية، فلم يحقق مذهبه في ذلك، فإن كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دَلْك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء؛ لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك، فأوجب دَلْكَهما ليذهب ما عليهما، ولكنه عَبَّر عن الدلك بالمسح، فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما، فحكاه من حكاه كذلك؛ ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء وهو معذور ، فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل، سواء تقدمه أو تأخر عليه؛ لاندراجه فيه، وإنما أراد الرجلُ ما ذكرتهُ، والله أعلم.

ثم تأملت كلامه أيضًا؛ فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين، في قوله: وَأَرْجُلَكُمْ خفضا على المسح وهو الدلك، ونصبا على الغسل، فأوجبهما أخذا بالجمع بين هذه وهذه" انتهى ، "تفسير ابن كثير" (3/54).

والحاصل، أن نسبة القول بالمسح إلى ابن حزم رحمه الله ، وأنه يحرم غسل الرجلين في الوضوء: كذب عليه ، وما هي بأول كذبة يكذبها القوم ، فإنهم مشهورون بذلك .

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب